من الولاية الحادية والخمسين إلى الدولة المنبوذة
مقالات

من الولاية الحادية والخمسين إلى الدولة المنبوذة

الحروب لا تنتهي دائمًا بانتصارٍ عسكري، بل أحيانًا بانكسارٍ أخلاقي. في اليوم الذي أُعلن فيه اتفاق وقف إطلاق النار في غزة كانت إسرائيل قد خسرت أهم معركة في تاريخها الحديث: معركة الشرعية.

لم يُوقف النيران جيش ولا قرار بل ضمير عالميّ استيقظ على صور الركام والدم، فانتفض في الشوارع والجامعات والملاعب والمقاهي ليقول لتل أبيب: كفى.

لطالما اعتدنا أن نستهين بدعوة أحرار العالم للتحرك، نراها عاطفية بلا أثر. لكن في هذه المقتلة، انقلبت الموازين: في لندن وباريس، في تورونتو وبرلين، في نيويورك وروما، خرج الناس إلى الشوارع لا بنبرة تضامنٍ موسمية، بل بوعيٍ غاضبٍ يرى في فلسطين اختبارًا لإنسانية العصر.

الطلاب احتلّوا الساحات، الفنانون قاطعوا المهرجانات، الشركات انسحبت من صفقات، والجامعات فتحت حوارات كونية حول معنى العدالة والاحتلال، وحتى في المطاعم الإيطالية الشعبية أصبح الإسرائيلي محرجًا.

الولايات المتحدة دفعت نحو التهدئة ليس حبًا في السلام، بل خوفًا على ذراعها الاستعماري.

استمرار الحرب كشف تناقضها الأخلاقي أمام الرأي العام الغربي. "إسرائيل لا يمكنها أن تحارب العالم" قال ترامب لنتنياهو، والولايات المتحدة، لم تعد قادرة على تبرير شراكة مع دولة تُبث جرائمها مباشرة على الشاشات. لذلك، فإن وقف النار لم يكن انتصارًا لإسرائيل، بل عملية إنقاذ عاجلة لصورتها المتداعية.

إسرائيل التي كانت تفاخر بأنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" صارت منبوذة أخلاقيًا في عيون الشعوب. لم تعد جامعات العالم ترحب ببعثاتها، ولا الملاعب ترفع أعلامها، ولا الفنانون يرضون بأموالها.

الصور الخارجة من غزة حطّمت كل خطابها القديم عن "جيشٍ أخلاقيّ" و"صراعٍ متكافئ". لقد خسرَت إسرائيل رأس مالها الأهم: القدرة على إقناع العالم بأنها الضحية.

في الداخل اعترف نتنياهو أن إسرائيل تتجه نحو "اقتصاد اكتفاء ذاتي" ما يسميه الاقتصاديون بالاقتصاد الأوتاركي. لكن هذا ليس مشروع قوة، بل علامة عزلة. حين تعلن دولة أنها ستعتمد فقط على نفسها، فهي تعترف ضمنيًا بأن أحدًا لم يعد يريد التعامل معها. تمامًا كما حدث مع جنوب أفريقيا قبل سقوط الأبارتهايد، ومع روسيا بعد العقوبات، ومع إيران في الحصار، تتجه إسرائيل إلى النموذج ذاته: الانغلاق بدل الازدهار، والخوف بدل الثقة. ونتنياهو كعادته يؤدلج الفشل ويسوق لتاريخيّة حكمه حتى وإن كان العزلة!

ولكن مع العزلة الخارجية، تتفشى في الداخل أعراضٌ أشد خطرًا: الفاشية، العنصرية، وانغلاق الوعي. فحين تفقد الدولة اعتراف العالم، تبحث عن عدوٍّ داخلي تصنع منه هويتها، فتزداد قسوة ضد الفلسطينيين والعرب، وحتى ضد المعارضين اليهود. الانغلاق يولّد الخوف، والخوف يولّد الكراهية، والكراهية تتحول إلى نظام حياة. إنها دولة تأكل نفسها من الداخل، وتعيش على فكرة الخطر الأبدي والمنبوذ لا يعيش كما يعيش الآخرون.

حين يُصبح الجواز الإسرائيلي عبئًا، وحين يُستدعى الجنرالات إلى محكمة الجنايات الدولية، وحين تبدأ الشركات بالهرب، ستكتشف إسرائيل أن جيشها لم ينتصر، بل هزم صورتها في العالم.

من الولاية 51 التي كانت محور القوة الأميركية، تحولت إسرائيل إلى دولةٍ منبوذة تحمل وصمة الإبادة.

لكن للأسف الأسوأ لم يأتِ بعد. عزلة سياسية، تصدّع اقتصادي، ومجتمعٌ يغرق في فاشيته، هذه عوامل لا تبشر بالخير لكل ما هو عربي وفلسطيني، بل نحو اشتداد الأزمة في الضفة الغربية وفي الداخل الفلسطيني، في محاوله الهروب إلى الأمام بعيدًا عن العزلة العالمية وتداعيات لعنة الإبادة ومحاولة التهجير وربما من الصراعات الداخليه القادمة في إسرائيل، فبعد إتمام عملية التبادل لن يكون هناك أي صوت إسرائيلي يدعو لوقف الحرب إذا ما استئنفت مجددًا لأن سبب الخلاف الاسرائيلي الداخلي الوحيد حول استمرار الحرب من عدمها سيزول بعد إتمام صفقة التبادل ولذلك لا توجد أي ضمانات يمكن أن تردع المتعطشين للدم والإبادة والتهجير في المستقبل.

إن تمت عملية تبادل الاسرى، ستشكل نقط مفصلية سيتسع بها الشرخ في المجتمع الإسرائيلي المتناحر، والذي اختزل الإنسانية في موضوع أعاده رهائنه فقط. وبعد عودتهم سيعود لحرب القبائل الداخلية.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.