الحمير والمستوطنين استدعاء لسرديات توارتية
حضرت الحمير في المشهد اليومي لاعتداءات المستوطنين الممتدة والمتنقلة في الضفة الغربية في محاولة مدروسة تسعى لتكريس مشهدية يستدعى فيها ماض مزعوم ومؤطر بسقف وببعد ديني توراتي. وتظهير الحمار في كل مشهدية مع تعمد تصدره المشهد الذي يوثقه فلسطينيون وصحفيون ونشطاء وأحيانا المستوطنون أنفسهم ويقومون بنشره ليس بالأمر الصدفي، فهو يندرج ضمن السعي لخلق منظومة ثقافية من خلال الاعتياد ليس فقط من قبل الفلسطينيين على هذا الحضور، وإنما أيضاً لترويجه عالمياً كحالة استقطاب ليهود أخرين وربما هواة من غير اليهود للقدوم وعيش التجربة على سفوح وبطاح الأرض الفلسطينية, وهو أمر تم تأكيده ورصده من خلال حضور ومشاركة أجانب لمرافقة المستوطنين تجربة الحياة الخشنة وركوب الحمير ورعي المواشي وممارسة الزراعة البعلية والطهي على النار والرقص حول حلقات النار وإقامة حفلات الزواج.
وبالعودة للحمار مستجد الحضور والتظهير المقصود في المشهد اليومي رمزياً ووظيفياً، فهو أمر يعيدونه للنصوص المقدسة والأدب الرباني والتاريخ العبري المتخيل في أرض كنعان. فاليهود أعطوا الحمار رمزية تصل حد القداسة. ففي سفر العدد 22:21-33 رأى الحمار ما لم يره النبي في قصة (بلعام وحماره) "ففتح الرب فم الأتان فقالت لبلعام: ماذا صنعت بك حتى ضربتني هذه الثلاث مرات؟.... فكشف الرب عيني بلعام فأبصر ملاك الرب واقفاً في الطريق ...."، وفي هذا إشارة لا تعقل بأن الرب تكلم بلسان حيوان الحمار بينما النبي بحاجة لتوجيه من حمار. وفي سفر الخروج 23:5 ورد ما معناه أن الحمار أهم من الإنسان العدو بالقول " إذا رأيت حمار مبغضك واقعاً تحت حمله، فلا تتركه بل أطلقه معك" فأي وصية هذه التي تدعو لإنقاذ الحمار وسرقته وعدم مساعدة الإنسان مالك الحمار الأصلي.
ومما يعتقدون أنه مقدس في الحمار إيمانهم بأن المخلص "المشيح" لن يظهر إلا على ظهر حمار كما ورد في سفر زكريا 9:9 " ابتهجي جداً يا إبنة صهيون ... هو ذا ملكك يأتيك، عادلاً ومنصوراً ، وديعاً راكباً على حمار ، وعلى جحش إبن أتان"، فأي مخلص هذا الذي من المفترض أن يقدم ليزيل الظلم على ظهر جحش، ومن دلائل التوراة الأخرى ما جاء في سفر التكوين بقصة إسحاق 22:3 " فبكر إبراهيم صباحاً.... وسرج حماره .." وكذلك يرد رفقة الحمار لإبراهيم في أسفاره وترحاله. والإشارات للحمار في الأدب والنصوص الدينية اليهودية كثيرة ومتنوعه في مواضعها.
وما يهمنا هنا تسليط الضوء على حضور الحمار في انتهاكات واعتداءات المستوطنين المتدينين على الفلسطينيين حيث يجثم خلف الصورة الكثير من السياسات الممنهجه وبغطاء دعائي محلي ودولي يعزز المشروع الاستيطاني بوجهه الرعوي والبدائي. إذ لا يمكن أن ترى مستوطناً يقيم في بؤرة رعوية بلا مصاحبة حمار أو أكثر. وفي غالب الأحيان تكون هذه الحمير كما المواشي مسروقة من الفلسطينيين بهدف إفقارهم والتضييق عليهم وحرمانهم من مواردهم الاقتصادية وما يستندون إليه من حمير تعينهم على الرعي والحراثة والنقل وكل ذلك بهدف ترحيلهم.
إن تكريس نمط حياة ريفية بدوية من قبل المستوطنين على أراضي الضفة الغربية يعتمد في نجاحه على وجود استدلالات سردية تربط ولو وهماً وجودهم غير الشرعي بإرث تاريخي قديم مزعوم وعلى ذلك كان لا بد من تظهير الحمار في المشهد. وخدمة لمشروع تعبوي صهيوني مستمد من ثقافة الكيبوتس والتعاونيات الزراعية التي بدأ الصهاينة بالتأسيس لكيانهم عليها.
وعليه فإن حضور الحمار في إعتداءات المستوطنين ليس مشهداً فلكلورياً أو لتزيين الصورة بل هو أداة سياسية ورمزية وعملية. فمن خلال استخدامه في التضاريس الصعبة كمسافر يطا مثلاً يبرز التوجيه بعملية حضور الحمار، وفي رمزيته يعطي إنطباعاً بأنه ليس مركبة عسكرية توحي بالعنف والإرهاب بل تظهر مدنية ما يقومون به من زراعة ورعي للمواشي كما يفعل الفلسطينيون وبالتالي فإن تجريمهم دولياً يعني تجريم الفلسطينيين على ذات المشهد بالتلقاء.
ومن الدلائل السياسية تصدير المشهد لدى اليهود والعالم بأن ما يجري ليس أكثر من مستوطنين مع حميرهم وقطعانهم في تلال "أرض الميعاد" وأن وجود الفلسطيني في هذه الأرض اليهودية راعياً أو ساكناً هو الاعتداء الذي يجب أن ينتهي. وصورة الحمار تغطي على السلاح المرافق للمستوطن راكب الحمار. كما جاء في سفر التكوين 13: 2، 5–7 «وكان لأبرام مواشٍ كثيرة… وكان أيضًا للوط مواشٍ… ولم تحتملهم الأرض أن يسكنوا معًا.»
والحمار في السردية اليهودية الحديثة له ارتباط بالأباء كإبراهيم ويعقوب وعلى كل المؤمنين بالعهد القديم التسليم بذلك بل والدفاع عنه ودعمه، عدا عن أن الخلاص بظهور "المشيح" لن يتحقق بدون الحمار.
إن إظهار وتظهير المستوطنين للحمار في زوايا المشهدية اليومية ليس بالأمر الصدفي، بل هو تحميل رغباتهم للنص التوراتي بتصدير صورة ونموذج أن الرعي يفضي لإمتلاك الأرض، فالمستوطن أو المستوطنة على ظهر الحمار برفقة قطيع من الماشية والإبل هو سرد توراتي أولاً، وثانياً هو اسقاط للذات على الشخصية التواراتية دينياً ونفسياً، وثالثاً هو صعود بالراعي المستوطن لدرجة التماهي مع الحد التوراتي، وأخيراً يأتي كإخراج سينمائي للنصوص الدينية بمشهد بصري مستند إليها.
وبما أن الحديث عن الاستيطان بمشهد بصري يجسد الحياة البدائية المتقشفة فلا بد من الإشارة إلى أن المستوطنين اليهود ربما إستلهموا الأمر من قوى إستعمارية وإمبريالية ذات تاريخ موغل بالإرهاب والدم والتطهير العرقي والإبادة، كالفرنسيين إبان احتلال الجزائر حيث عمدوا إلى مصادرة أراضي الجزائريين ومنحها للمستعمرين والرعاة الفرنسيين والأجانب بقهر السلاح ومن خلال تصوير السكان الأصليين بالبدو غير المستقرين وغير المنتجين، وفي استراليا هجر الإنجليز الفلاحين والسكان الأصليين وأنشأوا مزراع لهم مكانها، وقصة الهنود الحمر في أمريكا الشمالية مثال أخر على طرد المزارعين ومنحها للمستوطنين.
وبالنتيجة وبرقابة المشهد اليومي للمستوطن والحمار في الضفة الغربية يمكننا القول بأن الأمر أكثر من خطير بما يحمله من تعويد على المشهد وتطبيع للعقل بشكل متدرج يبعد عن الصهاينة تهمة الإبادة الجماعية للفلاحين الفلسطينيين والرعاة، ويعتمد على خنقهم اقتصاديا وحرمانهم من فضاءاتهم الرعوية والرزراعية. وكل ذلك من خلال تشييع صورة المستوطن والحمار كمشهدية إنسانية محببة لا تظهره كمحتل وقاتل، وتسهل استجلاب مستوطنين أخرين لمعايشة تجارب شبيهة على إمتداد الأرض الفلسطينية كطقس ديني يومي ولحظي.
سلامٌ عليك يا عمدة
"طوفان غزة"
صديقي ... والتغيير القادم
عندما صار مذاق المرّ حلواً
نظام التربية والتعليم ضامن مقومات الأمن القومي للبلد
فخ القطيع والأرض المغلقة": من سرقة الأرض إلى هندسة المجاعة.. كيف تُدمَّر سبل العيش لتجريد...
بطانة الرئيس وإشكالية إصلاح النظام السياسي الفلسطيني











