عن مخاطر تتهدد سورية ولبنان
مقالات

عن مخاطر تتهدد سورية ولبنان

إذا صحّت الأخبار عن الاتفاقات الأمنية التي تمّ تسريبها بين نظام الشرع ودولة الاحتلال، وأغلب الظنّ أنها صحيحة، بدليل أنّ «نفي» نظام الجولاني لم نسمع به بعد، ولا يبدو أننا سنسمع به قريباً، وربما لن نسمع به أبداً.. إذا صحّت الأخبار فإن سورية التي عرفناها حتى اليوم قد تمّ بيع واقتطاع مساحة لا تقلّ عن عشرة آلاف كيلومتر مربّع منها، على هيئة مقاطعات خرجت من الولاية السياسية، بما فيها الولاية الشكلية للنظام «الحاكم» في دمشق.

السويداء شكّلت جيشها الخاص، ولديها قوات نظامية بأسلحة جدّية وثقيلة، وهي لم تعد على استعداد للعودة إلى «الدولة المركزية» إلا على أساس فيدرالي يعترف لها «بالاستقلال» التام باستثناء بعض أشكال الخدمات المشتركة مع باقي الفيدراليات المنوي تشكيلها قريباً.

وحسبما سُرّب من أخبار عن الاتفاق الأمني بين نظام الجولاني ودولة الاحتلال فإن منطقة درعا كلها ستكون منزوعة السلاح، وإن الأمن الداخلي المحلّي هو الشكل الوحيد المسموح به إسرائيلياً.

وأما بالنسبة للمنطقة التي تسيطر عليها دولة الاحتلال من كل الجنوب السوري فقد تمّ الاتفاق على أن تكون بالكامل تحت الحماية الأمنية الإسرائيلية.

ويُقال، وأغلب الظنّ أن ما قيل، وما يُقال حول الجولان السوري المحتل هو التأجير المفتوح لمدّة 25 سنة، وهناك أخبار عن 50 سنة تُجدّد تلقائياً، وبذلك يتمّ فعلياً تحويل قرار الدولة الصهيونية بالضم النهائي إلى قرار بالموافقة السورية عليه من خلال صيغة الإيجار المفتوح.

أما مقاطعة «قسد» فقد انتهى «الأمل» بدخولها في إطار الدولة «المركزية» المفترضة، وحُسم الأمر باتجاه مقاطعة، وكجزء من النظام الفيدرالي المستقبلي.

يبقى الشمال السوري من ريف حلب وإدلب كاملا تحت الوصاية المؤقّتة لتركيا إلى أن يتم قيام مقاطعة في النظام الفيدرالي الجديد، ويُترك أمر الساحل السوري للتطوّرات القادمة، لأن كامل الساحل، وجبل العلويين ما زال دون وصاية مباشرة من أحد حتى الآن.

فهمت تركيا الدرس جيداً، وأهمّ ما فهمته أنها لم تعد لها يد طويلة، بعد أن اصطفّ نظام الجولاني مع الولايات المتحدة الأميركية، ومع الهيمنة الإسرائيلية، وحتى اليد القصيرة سيتم بترها إذا ما حاولت أن تتمرّد على الواقع الجديد.

تركيا وقعت في الفخّ الذي نُصب لها، أو أوقعت نفسها فيه، ولم تعد الآن قادرة على تغيير هذه المعادلة إلا إذا استخدمت أوراقها القوية، أو التي ما زالت تعتقد أنها قوية ضد نظام الجولاني نفسه، وهي مسألة محفوفة بمخاطر كبيرة على الدولة التركية نفسها.

مع الاتفاقيات الجديدة التي تسرّبت، تكون الدولة التركية قد جُرّدت من مكامن قوة دورها الإقليمي، وتحجّمت، وانكفأت إلى الداخل التركي عملياً، لأنها فقدت ميّزة التصدّي لقوات «قسد»، وفقدت سيطرتها على الجماعات التي تشكّل الآن عماد قوة نظام الجولاني، وأصبح دورها كوصيّة هو دور مؤقّت إلى حين «الإعلان» الرسمي عن النظام الفيدرالي الجديد. وحتى دورها في أذربيجان لم يعد حاسماً بعد اعتراض إيران وروسيا على مشروع تحويل المنطقة الأرمنية الأذرية إلى ممرّ استثماري يطوّق إيران، وإلى منطقة تؤثّر على جغرافية المجال الحيوي للدولة الروسية.

ليس هذا فحسب، فإن تركيا الآن لم تعد، لا هي ولا قطر، مستعدة لدعم عمليات إنعاش سريعة للاقتصاد السوري طالما أن اصطفاف نظام الجولاني بالاتفاقيات الأمنية الجديدة قد ساهم بصورة مباشرة في حصار الدور الإقليمي لتركيا في ظل تدهور الأوضاع المعيشية في سورية بصورة مأساوية، وفي ظل 90% من الحديث عن الاستثمارات القادمة إليها تحوّل إلى عمليات بيع لأصول ملكيات الدولة في العقارات والأراضي خصوصاً، وتحوّل بيع هذه الأصول إلى عمليات مهولة من الفساد والرشاوى وتقاسم الغنائم بين أُمراء الحرب، والقادة الجُدد، و»القوات الأممية» القادمة من الصين وأوزبكستان، ومن الشيشان، وغيرها من بلدان تصدير المسلحين والإرهابيين الذين تُشرف عليهم، ومنذ سنوات طويلة الاستخبارات الغربية. ناهيكم طبعاً عن أن الآلاف المؤلّفة من قيادات «النصرة» التي هي على علم ومعرفة كاملة بالعلاقة التي تربطهم بالاستخبارات الإسرائيلية.

وبذلك تمّ تحويل سورية التي عرفناها حتى اليوم إلى دولة فاشلة وعاجزة، ولا تملك من أمرها سوى بيع وتأجير ما استولت عليه من أصول وثروات، من أجل بقاء نظام الجولاني في سدّة «الحكم» إلى أن يأتي يوم التخلُّص منه، إمّا على يد الأميركان ودولة الاحتلال، وإمّا على يد تركيا إذا ما زالت تفكّر في أي دور إقليمي لها مستقبلاً، و»سنّة الشام» أنفسهم هم حلفاء تركيا، وهم لم يعودوا حلفاء للجولاني.

واضح أن دونالد ترامب قد تخلّى عن الدور المباشر لبلاده في بلاد الشام لصالح الدور الإسرائيلي، على أن يتولّى الدور المباشر في إيران ومنطقة الخليج، ولهذا فإن الدور السوري الجديد هو اللعب بالأوراق اللبنانية بعد أن تحوّل الأخير إلى نظام محصورة ولايته السياسية في المدن الأربع وهي، دمشق، حماة، حمص، وجزء من حلب.

بعد فشل محاولات سحب أسلحة «حزب الله» اللبناني، وفشل الأميركان في إجبار دولة الاحتلال على وقف الاعتداءات والانسحاب من التلال الخمس أصبح الحلّ الوحيد الممكن الآن تفجير الوضع الداخلي اللبناني، أملاً في أن يتمّ بناء تحالف «سنّي مسيحي» بمساعدة نظام الجولاني لإجبار المكوّن الشيعي على «التسليم» بمعادلة جديدة قوامها تهجير أهل الجنوب، وتحويل الجنوب إلى منطقة استثمار عقاري يتصل بمشروع استثماري يمتد إلى سورية في مناطق يتم اقتطاعها لصالح هذه التوجهات التي أُطلق عليها مرحلة «الازدهار» القادمة، ويتم الترويج لها من توم برّاك نفسه.

إذا فشلت المحاولة الجديدة بتفجير لبنان، ومحاصرة المكوّن الشيعي فسيعمد التحالف الأميركي الصهيوني على تقسيم لبنان إلى محمية «مسيحية»، وإلى «جبل درزي»، وإلى تحالف سنّي مع نظام الشرع قد يصل إلى اقتطاع طرابلس، وإبقاء بيروت الغربية منطقة تماس واحتراب بين السنّة والشيعة كما تشي وتوحي بعض التقديرات والمعلومات في دوائر استخبارية غربية وعربية.

والمعادلة اللبنانية الجديدة أصبحت تتضح يوماً بعد يوم أنها معادلة تضعه أمام خيارين لا ثالث لهما:

فإمّا دولة تسلِّم بالسيطرة الإسرائيلية على الجنوب، وقبولها هنا يعني اكتفاءها بسيادة خارج ناطق الهيمنة الإسرائيلية، أيّ التسليم بتلك الهيمنة، أو الاحتراب الداخلي، وفدرلة الوضع اللبناني بين مقاطعات لا تتعايش فيما بينها على أُسس ميثاقية، ولا دستورية، وبما في ذلك صيغة «الطائف»، وإنما على أُسس ومجموعات مذهبية ودينية وطائفية لها حكوماتها الخاصة، وولاياتها الخاصة.

الصيغ التي تفكّر بها دولة الاحتلال للبنان هي دولة خاضعة كلياً، أو لا دولة على الإطلاق، وبعد استنفاد مشروع نظام الجولاني وفشله المحتوم ستعود سورية لنفس المعادلة، إمّا دولة فيدرالية في أحسن الأحوال تحوّل سورية إلى مقاطعات لا يربطها بالوطن الأمّ (سورية)، سوى نظام اقتصادي كسيح، وحمايات أمنية لا تشكّل أيّ تهديد من أي نوع كان.

هذا ما تفكّر به مراكز أبحاث السياسات والأمن القومي في دولة الاحتلال، وهي التي تغذّي المراكز المناظرة لها في أميركا، و»اليمين الفاشي» في دولة الاحتلال يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، لأن الأمر كلّه ما زال قيد البحث، وقد يكون التوسّع الجغرافي الإسرائيلي هو المطروح على جدول الأعمال أوّلاً، وقبل الترتيبات التي أشرنا إليها.

هذا ما يرونه، وما يخططون له، لكن كل هذا لن يرى النور، ولا هو قدر، وليس من المرجّح حصوله، لأن دولة الاحتلال وصلت إلى أعلى درجات الوهن الداخلي الذي لا يؤهّلها للقيام بهذه الأدوار في الواقع المرئي، وهي ستنهار داخلياً قبل أن تتمكّن من المضيّ قُدماً في هذه المخطّطات، وخطابها يتضمّن أيديولوجيات فارغة أكثر ممّا يتضمّن حقائق ووقائع قابلة للتحوّل إلى معادلات حقيقية.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.