مـطـار أثـيـنـا وقـطـاع غـزة «في ذكرى محمود درويش»
مقالات

مـطـار أثـيـنـا وقـطـاع غـزة «في ذكرى محمود درويش»

في المقتلة وحرب الإبادة استحضرت الأحداث الجارية، منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، أحداثاً شبيهة مر بها الفلسطينيون منذ ١٩٤٨، مع فارق في التوحش الذي بلغ مرحلة لم نعهدها من قبل، وكان من الطبيعي أن تستحضر الذاكرة النصوص الأدبية التي كتبت في الأحداث السابقة، وأن تتكئ عليها لتعزز مقولة الروائي إلياس خوري التي جعلها عنواناً لآخر كتبه «النكبة المستمرة»، وكنت في بداية هذا العام أتيت في حلقات على نصوص محمود درويش التي حضرت في المقتلة الحالية أكثر من غيرها.

لم تفارقني نصوص الشاعر بعد ذلك، فأكثر ما كتبت تضمن منها واقتبس من روايات غسان كنفاني، وكنت أشعر أحياناً أنهما كتبا بعض ما يجري الآن، علماً أن الأول توفي في ٩ آب ٢٠٠٨ والثاني اغتيل في ٨ تموز ١٩٧٢.

وأنا أكتب في ٤ أيار ٢٠٢٥ عن رواية عاطف أبو سيف «القبر رقم  49»، وهي رواية عن المقتلة الحالية، التفت إلى عوالم شخصياتها المتعددة وهواجسها التي تختلف من واحدة لأخرى، على الرغم من أنها كلها محاصرة وتعيش الواقع نفسه؛ الحصار والقصف وغلاء الأسعار والفقدان.

كانت للشخصية الفردية معاناتها الخاصة، إلى جانب المعاناة الجمعية، وكل شخصية تبحث عن حل لمشكلتها.

ذكرتني الرواية بقصيدة درويش «مطار أثينا» التي اقتبست منها مقطعاً ضمنته المقال، وفي المقطع يفكر كل فلسطيني، بعد خروجه من بيروت، بما يؤرقه؛ المقاتل أين سيقاتل، وزوجته الحامل أين تهديه طفله، والموظف أين يوظف ماله، وهذا ما لا يهم المثقف: مالي ومالك؟، وأما رجال الجمارك فيسألون القادمين: من أين جئتم؟ وإلى أين تمضون؟ وأين عناوينكم؟ وهنا تجيبه امرأة من جماعتنا: بقجتي قريتي. (الأيام الفلسطينية).

سوف أتابع في الأشهر الأخيرة صفحات غزيين مختلفة التوجه، وسوف أرصد كثيراً منها وأعتمد عليها في كتابة اليوميات التي لم أتوقف عن مواصلتها إلا في الهدن العديدة.

من آخر ما قرأته مثلاً كان عن الباقين في شمال القطاع المصرين على ألا يغادروا، لأنهم تربوا على فكرة البقاء، فارتقوا.

هكذا ارتقت، في الشجاعية، الصحافية مروة مسلم وأخواها معتز ومنتصر معاً، في ٢/ ٨/ ٢٠٢٥.

ما الذي يهم تاجر العملة مثلاً في المقتلة؟

كتب غزيون كثر عن العمولة التي يطلبها منهم تجار العملة، حتى يوفروا لهم سيولة نقدية.
إن ما يشغل التجار أولاً وأخيراً هو توظيف أموالهم واستثمارها وزيادتها.
لقد تفننوا في وسائل الاحتيال وتجبروا ليفرضوا ما يريدون، ومن أطرف أشرطة الفيديو شريط تصغي فيه  إلى الآتي:

«- خذ ع التطبيق يللي ماشي ع الطريق.

- بدنا سيولة. بكم العمولة؟

- ٤٠ بالمية.

- ٤٠ بشيلوك بجهنم يحطوك. روح انقلع.

- ٤٠ بالمية. هذا حقي الشرعي الطبيعي.
يقول آخر:

- أنا بروح ب ١ بالمية ع الدار.

- لا! وحنلاحقك عليه. بس اصبر شوية».

في ٣ آب ٢٠٢٥ كتبت د.هيا فريج أن الصريف يأخذ منها ٥٢ بالمائة عمولة على راتبها.
وإن كان الشاب الذي يريد أن يتزوج في قصيدة درويش يبحث عن غرفة لفض بكارة عروسه، فإن أهل الموتى في غزة انشغلوا بالبحث عن مقابر لمن فقدوا وانشغلوا أيضاً بتوفير تكلفة الدفن.

لقد عزت القبور وارتفعت التكلفة. تحدث مواطن في شريط فيديو عن أزمة الدفن «والله ما في مقابر ندفن الناس، فلا حجارة ولا بلاط، وبعض الشهداء أعيدوا إلى الثلاجات. إننا نناشد أي أحد إيجاد مقابر. أقل شيء هو أن ندفن الموتى. هذا هو أقل واجب» (الفيديو عن صفحة  Mariam Abu Dagga).

وعن الدفن وشاهد رخام القبر كتب أبو سيف في روايته.

الجائعون الآن في غزة، وهم مئات الآلاف، لا يتحدثون إلا عن الرغيف والحصول على الطحين والصراع عليه.

وماذا عن المقاتلين الذين رأينا أحياناً، في مشاهد أشرطة فيديو، لحظات عابرة لإقدامهم وجرأتهم وسمعنا بعض عباراتهم؟

في يومياتي كتبت عن نص غزة الغائب الذي لم نكتبه. لقد غاب هذا النص عن كتاباتنا؛ لأن من يقاتلون ما زالوا يقاتلون ولم يخرجوا إلى مطار أثينا ليسألوا:

- أين نقاتل؟

وماذا لو نظرنا في صفحات بعض أبناء الضفة أو فلسطين في ١٩٤٨؟

أحد طلابي، وهو مصباح الحاج محمد، صار منذ ١٥ عاماً تقريباً معلم حكومة لا يقبض راتبه في موعده، وإن قبضه لا يصرف له كاملاً، وهو غالباً ما يكتب عن الرواتب وموعد الصرف ونسبته وما للمعلمين من ديون على الحكومة، وأما ما ينشغل به أهلنا في مناطق ١٩٤٨ فهو تفشي الجريمة التي يزداد عدد ضحاياها شيباً وشباناً، ذكوراً وإناثاً و..

وحالة تعبانة يا ليلى، ورحم الله محمود درويش الذي تمر في هذه الأيام ذكرى وفاته، علما أنه كان فيما أكتب الأكثر حضوراً.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.