ابـتـسـامـة الأسـتـاذ
مقالات

ابـتـسـامـة الأسـتـاذ

شارع نزلة البريد برام الله ما زال يشكل لي فضاء ملائما لاصطياد العبارة الأولى في الحكاية أكورها بين يديّ، ألعب معها لعبة تبادل المعرفة، أعطيها أنا إحساسي وذاكرتي  وتعطيني سرها وصراحتها وتناقضها وغرابتها، وجمالها. ثم أعيدها إلى مكانها في الشارع، آمنة ومسحورة.

حملت عدتي ذات صيف ناري ومشيت صباحا تجاه شارع نزلة البريد، حاملا على كتفي أدوات صيدي، وبدأت المشي البطيء، تحت الشجر، لا سيارات ولا مارة، فقط أصوات عصافير تملأ الشجر وروحي، ورجل في السبعين قصير ونحيل، يتحرك في حديقة واسعة على طرف الشارع تماما، ما الذي يفعله رجل في السبعين وحده في حديقة بيته الواسعة النظيفة في ساعة مبكرة من يوم الأربعاء؟ اقتربت من طرف الشارع، وقفت مستندا إلى سور بيت، وغرقت في مراقبته، لم يكن يفعل شيئا غريبا، كان يمشي في الحديقة، كما يمشي كل الناس، أحببت هذه الطمأنينة، وارتحت للسكون المشع حول الرجل، كان يبدو سعيدا باتساع المكان، ونضارته، ورد في كل مكان وفراغ حبيب، وبيت قديم يسكنه، كل شيء كان في مكانه تمام، لكني فجأة (وبينما كنت أجهز عدة خيالي لأقنص المشهد وأركّبه على مشاهد أخرى في الشارع كصوت العصافير الغزير مثلا) انسحبت من وعيي الأدبي لوعيي الواقعي فتذكرت الرجل تماما، إنه الأستاذ كمال شمشوم الذي علّمني، فصلا كاملا، الرياضة في جامعة بيرزيت صيف 1983، ابتسمت له من بعيد، ملوحا ومحييا بصوت خفيض: (صباحك خير أستاذنا). رد بابتسامة دافئة وتلويحة رأس، دون أن يبدو عليه أنه متفاجئ لوجودي وحيدا في الشارع، في هذا الوقت، ابتسامته كانت نفس تلك الابتسامة التي كان يمنحنا إياها كطلاب حين كنا نتقن قفزة رياضية صعبة، بعد محاولات فشل، لم أعرف إن كان قد عرفني، فالأستاذ لا يتذكر طلابه، هكذا يحدث معي كأستاذ مع طلبتي في المدارس، من ابتسامة الأستاذ انفجرت ذكرياتي في الجامعة مع الأستاذ، سقطت عدة الخيال عن كتفي، كنت في حصة الرياضة في مدرسة مخيم الجلزون، لا أجرؤ على خلع بنطالي، لأستبدل به شورتا قصيرا يظهر سمنتي، كنت خجولا من جسمي غير المتناسق، ومن تعرجات وانتفاخات هناك وهناك، كان مدرس الرياضة في المخيم الأستاذ محفوظ صافي يستغرب أني الطالب الوحيد الذي لا يشارك في المباريات، وإنني المتفرج الوحيد على طلاب الصف وهم يتوزعون إلى فرق، كنت أبرر للأستاذ محفوظ ذلك الفعل العجيب بألم في ساقي لا يزول، لم يكن الأستاذ مقتنعا، وعرف أخيرا من والدي وهو صديقه، أني أخجل من سمنتي، وأنه من الأفضل تركي مع قناعاتي، صرت الطالب الوحيد في المدرسة الذي لم يُر يوما بشورت رياضي، في حصص الرياضة، ظلت هذه القناعة المريضة تلاحقني حتى قاعة الرياضة في جامعة بيرزيت أمام الأستاذ كمال شمشوم، أخبرته بالحجة نفسها: لديّ ألم في ساقي لا يزول والله يا أستاذ، لكن ذكاءه وفراسته كانا أقوى من حجتي، نظر إليّ طويلا، وقال لي بنفس ابتسامة الصباح هذا: (أراك بعد الحصة، أجلس هناك من فضلك) جلست جانبا، ورحت أراقب خفة الطلاب التي لا تحتمل وهم يكادون يطيرون بأجسادهم الحرة الخفيفة.

لم يكن الأمر يحتاج من الأستاذ إلى كثير من الكلام، حتى يعالج مرضي هذا، أتذكره تماما بملابس الرياضة يجلس أمامي في المكتب: (القصة أعرفها، أفهمها، لكن إليك حلها، ربما أستطيع فهم ألا تشارك في نشاطنا الرياضي وقد أستطيع أن أمنحك علامة النجاح دون أن تأتي إلى الحصة حتى، لكن القصة لها أبعاد أخرى ولها علاقة بمستقبل قرارات حياتك المصيرية وبنضج عقلك وغنى تفكيرك ونجاحك في حياتك كلها، لا ألم في ساقك، الألم في عقلك، في وهمك، في خوفك، وإذا استمررت في التمسك بحجة ألم الساق، سيظل عقلك مبرمجا على استخدام ألم الساق، في كل خطوة تخطوها في حياتك، وأكاد أتخيلك فيما لو ظللت مستسلما لهذا المرض خائفا من مقابلة ساحرة دعتك إلى فنجان قهوة، ستتصل بها معتذرا لأن ألما مفاجئا في ساقك قد داهمك، أما منحة الدكتوراة المهمة التي ستحصل عليها ذات يوم فستلغيها لأن ألما داهم ساقك، فأنت تخاف من الغربة، وتفضل أن تبقى في المخيم، حيث الأهل والأمن العائلي، ودفء الأصحاب وغياب الطرق المجهولة في حياتك. أرجو أن تفكر في كلامي جيدا، أعرف أن العلاج لن يكون سريعا، لكني أطلب منك أن تفكر وتكون قويا وصريحا في مناقشة نفسك. ولو جئت الحصة القادمة بألم في ساقك صدقني لن أنزعج لأني أعرف كما قلت لك أن العلاج ليس سريعا).

لاحقا بعد سنوات، سأقرا جملة مذهلة (ليونغ): (إن كل تحول عظيم يبدأ بانهيار وهم)، وسأعرف أن قصة الشورت الرياضي كانت رمزا لتحولات كبرى في عقلي.

غادرت الشارع راقصا، صاعدا إلى المدينة التي بدأت تستيقظ، داخلي يزغرد إحساسا أزرق بالوجود، ممتلئا بطاقة حب غريبة، قطفت وردة من حديقة بيت وأهديتها لنفسي، عانقت شجرتين، أطلقت صرخة سعادة أجفلت عصافير الشجر، في أعلى الشارع كانت سيارة تهبط بهدوء، حين حاذتني أطل منها السائق الذي لا أعرفه قائلا: الشورت بجنن عليك يا أستاذ.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.