الوجه المُظلم للقمر..!!
مقالات

الوجه المُظلم للقمر..!!

قلنا إن المدن مخزن للرغبات والغرائز اللاواعية والدوافع المكبوتة، بلغة، طيّب الذكر، فرويد. وهذا يصدق على التخطيط العمراني، والفضاء العام، وشواهد الذكرى والذاكرة (كالنصب التذكارية، مثلاً، إن وجدت أو غابت) وأماكن الترفيه، والاختلاط، والتبادل، وكذلك الضوابط السياسة والأخلاقية السائدة. وفي ختام مقالة الثلاثاء الماضي، أثارت "نيوم"، الخاضعة للرقابة على مدار الساعة، والتي لن يُسمح بدخولها والإقامة فيها إلا لفئة خاصة من السعوديين، تداعيات نقول، اليوم، إنها أعادت التذكير بـ "1984". وبهذا التمهيد ننتقل إلى دبي، وسيلة إيضاح المدينة الأولى، وخارطة طريقها.
سأتكلّم عن تجربة شخصية بعد اقتباس من الإيكونوميست البريطانية (22/8/2020) التي تحظى بمكانة مرموقة لدى أصحاب الاختصاص. فبعد الكلام عن فخامة، وحيوية، دبي، ومكانتها كأحد أبرز المراكز المالية الصاعدة في العالم، تقول المجلة: "هي الأكثر غموضاً بين كل المراكز المالية الكبرى، ليست ملجأ المال النظيف الباحث عن الاستثمار، أو الهارب من الاضطرابات في أماكن أُخرى وحسب، بل وملجأ المال القذر أيضاً، يستخدمها الساسة الفاسدون، وغاسلو الأموال، ومهربو السلاح، والمتهربون من العقوبات، ومجرمون من أنواع أخرى". انتهى الاقتباس. هذا، إذاً، جانب من "الوجه المُظلم للقمر".
ومن المؤكد أن الوجه المُظلم لا يحظى باهتمام المبهورين بالضوء، وحيتان الاستثمارات والصفقات. وكذلك الأمر بالنسبة للباحثين عن "الشغل" من المجاري، والمشاريع الإنشائية التي لا تنتهي، وصولاً إلى الأكاديميا، وأغلب هؤلاء من الهنود (59 بالمائة من عدد السكّان، وأغلب العرب من المصريين والفلسطينيين واللبنانيين) فهم هناك من أجل لقمة العيش، وإن شعروا بغبن من نوع ما فلا يملكون الحق في التعبير عنه.
على أي حال، يُقدّر عدد سكّان الإمارات (2020) بـ 10 ملايين نسمة، ويقدّر عدد المواطنين الأصليين، أي الفئة الأولى صاحبة الحقوق والامتيازات، بأقل من 12 بالمائة من عدد السكّان. يعني 88 بالمائة من السكّان (يُطلق عليهم في التسميات الرسمية "وافدين ومقيمين") بلا حقوق، ولا ضمانات، مهنية أو مدنية، أو سياسية.
وقد شاء الحظ أن يكون المرشد، في الحافلة السياحية، التي أقلتني مع عدد آخر من "الأجانب" في جولة سياحية في دبي، قبل عقد من الزمن، واحداً من هؤلاء. سألتُ الشاب الذي يتكلّم الإنكليزية بلكنة هندية: كيف تعرف المدينة بهذا القدر من الدقة، وكأنك وُلدت فيها؟ قال إنه وُلد فيها فعلاً. وهل تحمل جنسية الإمارات؟ قال لا، بل إقامة مؤقتة، وعندما تنتهي، ولا يجد عملاً، فعليه العودة إلى بلاده، كما حدث مع أبيه، الذي عمل طيلة حياته، وتزوّج وأنجب هناك، ولكنه عاد إلى الهند بعد التقاعد.
وينبغي ألا تغيب عن البال، في هذا السياق، حقيقة أننا أقمنا في فندق درجة أولى. وكما يحدث في مناسبات كهذه بحثنا في المساء عن، واكتشفنا، البار، الذي كان عامراً بكل ما يمكن أن تعثر عليه في كبريات المدن الأوروبية. وكالعادة، سألتُ البارمان، الهندي، أيضاً: هل هذه الأشياء متوفرة في بقية أنحاء المدينة؟ قال لا، بل يُسمح بالشراب في الفنادق الكبرى، فقط. وبما أن لافتات، وأسهماً، كانت تشير إلى أماكن للتسوّق والترفيه والملاهي الليلية في الطابق الأرضي، ناهيك عن البروشورات الدعائية، التي تجدها في الغرفة، وتستلمها مع المفتاح، كان علينا اكتشاف هذا كله، ولو من باب "العلم بالشيء".
وقد حال بيننا وبين دخول الملهي الليلي، في ذلك المساء البعيد، أمران: رسم الدخول المرتفع جداً، وتدافع طابور شبّان وكهول بالزي الوطني (الدشاديش البيض التي يُحظر استخدامها على غير المواطنين) في انتظار الدخول. ومع ذلك تمكنّا في البرهة القصيرة التي استغرقها الاحتجاج على رسم الدخول، واستعراض معلوماتنا في هذا الشأن، من سماع موسيقى صاخبة، واستراق النظر إلى ضوء خافت في الداخل، وأشباح نساء، كنّ روسيات، كما علمنا.
المقصود من هذا كله أن "الوجه المُظلم للقمر" يكتسب دلالات سياسية، واجتماعية، وثقافية، تسعى لتجاوز الجغرافيا السياسية والأخلاقية للنسق الخليجي، وفرض نفسها كوسيلة إيضاح لمعنى "السلام الإبراهيمي" في الشرق الأوسط، والعالم العربي، على نحو خاص. فمدينة "السلام الإبراهيمي" العربية، والمرشّحة بوصفها قاطرته العمرانية، والأخلاقية، والسياسية، هي مدينة مصطفى موند بامتياز، مدينة الأخ الأكبر، والرقابة على مدار الساعة، وتقسيم البشر إلى فئات. وهذا، بقدر ما أرى، ما ينتظر بلاد الشام، ومصر، والعراق، وشمال أفريقيا: فئة أولى، في كل بلد، تتكون من ملايين قليلة في الضواحي، ومدن محصّنة، مقابل عشرات ومئات الملايين، في كل بلد أيضاً، من الفئات الثانية والثالثة.
تبدو خلاصة كهذه سوداوية تماماً. ولكن، ثمة تربة صالحة: موجة اليمين في العالم، وطرد حقوق الإنسان من فلسفة وأجندة العلاقات الدولية، وزعزعة أركان الديمقراطية في موطنها الأصلي، أي الغرب، وتوحّش السوق وتحللها من القيم. والأهم، يجب ألا ننسى أن "المستقبل" يقيم في الحاضر فعلاً، وإن يكن بصورة مصغّرة، ومفردات مختلفة (وغير إبراهيمية) في فلسطين، وبقية العالم العربي.
ففي فلسطين الانتدابية يتمتع اليهود، وهم نصف عدد السكّان، بمكان ومكانة وامتيازات الفئة الأولى، ويُقسم الفلسطينيون إلى فئات ثانية وثالثة. وفي كل النسق الخليجي تحظى نسبة ضئيلة جداً من السكّان، غير المنتجين، بمكان ومكانة وامتيازات الفئة الأولى، بينما يحرم "الوافدون والمقيمون" من هذا كله، بل وحتى من "الدشداشة" أحياناً. ورغم أن بقية البلدان العربية تصدّر "المهاجرين"، إلا أن المشاريع العمرانية، على الطريقة الأميركية، في الضواحي، لا تسمح للتفاحة بالوقوع بعيداً عن الشجرة. واللافت أن هذا كله يجد مرافعة أيديولوجية نادرة في كتاب سنعقّب عليه بعد أسبوع. فاصل ونواصل.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.