
قد تخسر إسرائيل... لكن نتنياهو الرابح الأكيد
في السياسة، يُقال: "إن الوعد الذي يصعبُ الإيفاء به، يمكن الحفاظ عليه". ظلَّ توجيه ضربة لإيران ولمشروعها النووي وعدًا يحمله بنيامين نتنياهو للشعب الإسرائيلي على طول الحكومات التي ترأسها منذ أكثر من عقد ونصف العقد. وبمجرد أن أقدم نتنياهو على قرار توجيه ضربة عسكرية لإيران في فجر الثالث عشر من حزيران/ يونيو الماضي، فإنه كان يدخل التاريخ ويستأنف مسيرته السّياسية معًا، إذ "أوفى بيبي بما وعد به".
كان نتنياهو، بصفته زعيمًا صهيونيًّا يمينيًّا يهيمن على منصب رئاسة الحكومة منذ عام 2009، وهو من تنطّع وأخذ على عاتقه الدور الصهيوني التعبوي في شيطنة إيران والتخويف من برنامجها النووي في المحافل الدولية، وخصوصًا في الولايات المتحدة الأميركية وتعبئتها على إيران، في سلسلة خطابات جاءت على لسان نتنياهو في الأمم المتحدة والكونغرس عن ضرورة وقف مساعي إيران النووية، بوصفها تهديدًا ليس لإسرائيل فحسب، إنما للمصالح الغربية والأميركية تحديدًا في المنطقة. بالتالي، ظلت الرواية الصهيونية عن إيران النووية تتوالد على مدار 15 عامًا في مسامع الغرب والعالم على لسان نتنياهو تحديدًا.
في تقرير نشرته صحيفة "هآرتس" العبرية يعود إلى آب/أغسطس 2015، بالاستناد إلى رسائل مسجّلة بصوت إيهود باراك الذي كان يشغل منصب وزير الأمن في حكومة يرأسها نتنياهو عام 2011، يبيّن التقرير المحاولات الثلاث التي كان فيها بنيامين نتنياهو وحكومته على حافة توجيه ضربة إلى إيران جرى التراجع عنها في اللحظة الأخيرة... الأولى، كانت في عام 2010 حين أجمع كل من نتنياهو ووزيريه في الأمن والخارجية، باراك وليبرمان، على توجيه ضربة للمفاعلات النووية الإيرانية، إلا أنّ رئيس الأركان في حينه، غابي أشكنازي، تدخّل معترضًا لأن جهوزية الجيش لم تكن تسمح بذلك، مما اضطر نتنياهو إلى العدول عن توجيهها.
بعد عام، أي في سنة 2011، ولما صار الجيش في وضع جهوزية لتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، وقد أرادها نتنياهو، اعترض عليها بعض القادة ممن كانوا أعضاءً في ما يُعرف وقتها باللجنة الأمنية "الثمانية"، منهم وزير الشؤون الاستراتيجية موشيه يعلون (بوغي)، والوزير يوفال شطاينتس، ما أدى إلى العدول ثانية عن ضرب إيران. وفي عام 2012، قرر نتنياهو استئناف فكرة ضرب المفاعلات الإيرانية، إلا أن مناورات عسكرية كانت تجريها القوات الأميركية في المنطقة حالت دون ذلك، بحسب رواية إيهود باراك.
تأجلت من حينه الضربة العسكرية المباشرة للمفاعلات النووية الإيرانية، خصوصًا مع الاتفاق النووي الذي أبرمه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مع الإيرانيين في عام 2015، إلا أن نتنياهو ظلَّ يلوّح بجدوى استهداف إيران وبرنامجها النووي، فلجأ، بالتعاون مع قادة جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية وعلى رأسها "الموساد"، إلى تصفية علماء إيرانيين، من أبرزهم العالم الإيراني فخري زاده، بكمين دُبّر له في عمق الأراضي الإيرانية في تشرين الثاني/نوفمبر، معطوفًا على ذلك استهداف مواقع عسكرية إيرانية في سورية. وقد عزّز انسحاب دونالد ترامب بعد تقلّده منصب رئاسة الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران في أيار/مايو 2017 من موقف نتنياهو الداعي لمواجهة مساعي إيران النووية عسكريًا، وكان نتنياهو نفسه هو من وقف وراء عدول الرئيس الأميركي ترامب عن الاتفاق النووي في ولايته الأولى.
كان هذا موجزًا لسردية إسرائيل من الملف النووي الإيراني؛ سردية تمثلت على لسان رئيس حكومتها شبه الدائم، بنيامين نتنياهو، مما شكّل وعدًا وطنيًّا ووجوديًّا، تحقق مع بدء عملية "الأسد الناهض" فجر الثالث عشر من حزيران/ يونيو الماضي، لينهض المجتمع الإسرائيلي - اليهودي كله، على اختلاف أحزابه وقواه السياسية والاجتماعية، على قدميه مصطفًّا خلف العملية وعرّابها "بيبي"، مما صوّر هذا الأخير كما لو كان "بطلًا قوميًّا" لطالما أخذ على عاتقه الذهاب في مواجهة إيران وبرنامجها. كان نتنياهو، بمجرد مبادرته إلى ضرب إيران في عمق ترابها الوطني، يُمثّل بالنسبة إليه "انتصارًا تاريخيًّا" يُحسب له، وسيظل يُقترنُ به في ذاكرة الدولة العبرية وشعبها.
إلا أن هذا، ليس السياق الوحيد لقرار نتنياهو وإقدامه على توجيه ضربة عسكرية في العمق الإيراني، والتي ما كانت لتكون لولا ضوء أخضر من الولايات المتحدة للقيام بها، والإجماع الصهيوني - القومي على ضرورتها. فالسياق الآخر، هو ذلك المتصل بطوفان الأقصى، وحرب الردّ عليه المفتوحة على غزّة وأذرع إيران من قوى محور المقاومة، وبالأخص الحرب على حزب الله اللبناني وإضعافه بالقضاء على أبرز قياداته، ليتضح أن الحزب ثقله كان في قمّته، ثم إسقاط نظام الأسد الذي ترتّب عليه انسحاب القوات الإيرانية من سورية. وهو ما اعتبره نتنياهو منجزًا يُحسب لحربه، ليس على مستوى التغيير في دول التماس (سورية ولبنان) الذي صنعته الحرب، بقدر ما اعتبرته إسرائيل تقويضًا للاستراتيجية الإيرانية التي كانت تقضي بجعل المواجهة مع إسرائيل خارج العمق الإيراني، عبر تمكينها على مدار عقود لحلفائها في المنطقة العربية. الأمر الذي وجدت فيه إيران نفسها مضطرة للدفاع عن نفسها في سماء طهران.
كان يعرف نتنياهو تمام المعرفة، أن مواجهة عسكرية مباشرة مع دولة بحجم إيران أمر يختلف عن مواجهة أي من حلفائها في المنطقة العربية، لذا ظل حريصًا على مدار حملته الإعلامية للمواجهة مع إيران على الفصل ما بين إيران النظام وإيران الشعب، وعلى تحديد أهداف المواجهة وأولوياتها المتصلة بالجانب العسكري: ضرب منشآت مفاعل البرنامج النووي، والقدرات الصاروخية الإيرانية، بطريقة بدت محسوبة بالنسبة لنتنياهو وحكومته بالإبرة والخيط، بما لا يورّطه ويورّط جيشه في حرب استنزاف لا طاقة للجيش والمجتمع الإسرائيليين على تحمّل كلفتها مع دولة مثل إيران.
كما كان لدخول الولايات المتحدة على خط المواجهة في ساعات فجر التاسع عشر من حزيران/ يونيو الماضي لصالح إسرائيل ضد إيران، بضرب منشآت هذه الأخيرة النووية في فوردو ونطنز وأصفهان، ورقة إضافية رابحة احتُسبت لنتنياهو، لطالما تمكّن هذا الأخير من إقناع ترامب بالدخول على خط المواجهة، بصرف النظر عن حقيقة حجم الضرر الذي لحق بالمفاعل والبرنامج النووي الإيرانيين جرّاء القصف الأميركي لها. لقد تدخلت الولايات المتحدة الأميركية، لكن بشروطها وليس بشروط نتنياهو، وذلك في ضربة عسكرية محدودة ومحددة، دون أي مساس ببنية النظام في إيران.
ما كان لإسرائيل أن تستمر في المواجهة العسكرية مع إيران، وتتحمّل كلفتها لو استمرت المواجهة وتحوّلت إلى حرب استنزاف، خصوصًا في ظل الهجمات الإيرانية الصاروخية، التي طاولت عمق المدن الإسرائيلية، مما كان سيجعل للحرب كلفة حقيقية. وقد تنبّه نتنياهو إلى ذلك، فسرعان ما رحّب بوقفٍ لإطلاق النار، أو ربما هو من سعى إليه عبر وساطة أميركية - قطرية، ليسارع إلى إعلان انتصار العملية العسكرية وتحقيقها أهدافها بـ"القضاء" على الحلم النووي الإيراني، وتوجه التدخل الأميركي، وقد سبقه تصفية قادة وعلماء إيرانيين، معطوفًا على ذلك استهداف مواقع عسكرية، ومنشآت حيوية، تخلّلها استباحة كاملة للأجواء الإيرانية بعد تحييد نظام الدفاع الجوي فيها... "لقد عرف نتنياهو كيف يبدأ الحرب وينهيها".
ليس من حزب سياسي إسرائيلي معارض لنتنياهو وحكومته على الساحة السياسية الإسرائيلية اليوم، يفكّر جديًّا في انتخابات مبكرة. وليس عبثًا الدفع بعد انتهاء المواجهة مع إيران مباشرة بملف مقاضاة نتنياهو بتهم فساد إلى الواجهة مجددًا، في محاولة لا ترمي إلى التخلص من نتنياهو سياسيًّا، بقدر ما أنها تسعى لتقويض صورته التي صمّمتها عنه سلسلة حروبه كـ"بطل" صهيوني. إن الرابح هو نتنياهو، الشخص والنهج معًا، وهذا لا يشي بانتصارات صهيونية تنهي حروبها نحو تسويات وأحلام سلام شرق أوسطي كما يظن البعض، إنما تنذر ببداية مرحلة جديدة من المواجهة مع الصهيونية بنسختها الصهيونية - الدينية والفاشية الحالية، وسيكون فيها الوعي والذاكرة الفلسطينيين - العربيين نقطة ارتكازها الأساس.

نعم، محاكمة نتنياهو قضية تافهة

ما بعد الحرب: بدلًا من الانشغال بتعريف النصر والهزيمة...

الحرب على إيران وخطأ مقاربة 67

التحرر يبدأ من الثقافة

أمريكا شر مطلق وعدو طبقي وقومي قضية عبر عنها ناجي العلي بالريشة والفن

الصفقة الشاملة بالقوة

القضية الفلسطينية في الصراع الإيراني الإسرائيلي؟
