أميركا وإسرائيل: عن تطابق السياسة بين "هناك" و"هنا"
مقالات

أميركا وإسرائيل: عن تطابق السياسة بين "هناك" و"هنا"

لقد ألفنا في السنتين الأخيرتين وبشكل شبه يومي أن نقرأ ونسمع أخبارًا وتقارير وتحليلات شبه يومية عن موقف الإدارة الأميركية ودوائر صنع القرار هناك من إدارة الحكومة الإسرائيلية لحرب الإبادة. وقد سالت أطنان من الحبر وخُصّصت آلاف ساعات البثّ واستُقدِم آلاف الخبراء لـ"تفكيك" العلاقة والمواقف والاتصالات والزيارات المكثفة لمسؤولين أميركيين إلى تل أبيب. ربّما أنها وظيفة الإعلام كما يراها المحررون والواقفون على صمام العدسة، أن يُحلّل ويعكس ما يحصل ويتواسط بين المتلقي وبين الحدث.

نُقرّ أن الظاهرة كانت لافتة بوجه خاص عندما جلس مسؤولون أميركيون في جلسات الحكومة الإسرائيلية أو طاقمها المصغّر أو طاقم إدارة الحرب. عندما حضروا جلسات ناقشت فيها الحكومة الإسرائيلية شؤون الحرب على غزّة وأحداثها. ومثلهم قادة عسكريون أميركيون انضمّوا إلى قيادة غرف العمليات لا سيما في السنة الأولى للحرب، أيام الرئيس جو بايدن. ولا زلنا نذكر قدوم الجيش الأميركي إلى ساحل غزة وإقامة جسر عائم تمّ تصويره على أنه جسر لتوفير الإغاثة الإنسانية بعدما منعت إسرائيل إدخالها عبر المعابر البرية.

أمّا وصول ترامب إلى البيت الأبيض فقد زاد من كثافة الحضور الأميركي في أروقة الحكم في إسرائيل لا سيما في أروقة الحكومة. هنا، بدا أن الأميركيين هم أصحاب قرار مثلهم مثل المسؤولين الإسرائيليين، بل أكثر. فوقف إطلاق النار تمّ بقرار أميركي وتنفيذ إسرائيلي، للدلالة على أن القرار في إسرائيل كان أميركيًّا مئة بالمئة. بدلالة أن إسرائيل لم تحصل في اتفاق إطلاق النار على أي شيء إضافي، وأنها في جوهر الأمر الاستراتيجي خرجت خاسرة قياسًا بالأهداف التي وضعتها. ومع هذا، فقد انضوت تحت عباءة الاتفاق كما فرضته إدارة ترامب.

أعترف أنني منذ بدايات الحرب على غزّة لم أرَ أن أميركا وإسرائيل كيانان مستقلّان. بل لم أرَ إسرائيل جهة مستقلة عن المركز الغربي الذي هبّ "من الأقرع للمصدي" إلى تل أبيب. ولا أقول هذا بسبب العلاقة البنيوية بين الغرب الأبيض وإسرائيل، ولا بسبب عقدة الغرب الأوروبية خاصة تجاه "دولة اليهود" والناجين من المحرقة، ولا بسبب العلاقة الاستراتيجية بين التوراة والبروتستانتية، بل لاعتقادي أن تحولات العولمة أضعفت الدول والحكومات الوطنية لصالح مراكز المصالح الاستراتيجية والرأسمال وتحالفات العقائد ـ وهنا اليمينية وحزام التوراة والخلاصيين في أميركا الشمالية. إن مراكز المصالح هذه متقاطعة ومشتبكة أكثر من أي وقت مضى، والحدود بينها تكاد تكون غير موجودة. إنها "السيولة" كما يُسميها باومان؛ سيولة في الكيانات السياسية، والسيولة في السياسة نفسها وفي وظائف نُخبها، خاصة إذا كانت تتبع للعقيدة ذاتها وتحظى بالتمويل من الرأسمال ذاته وتقول بما يُريد. فلننتبه إلى عدد المسؤولين الأميركيين الذين يتموّلون من مصادر تموّل مسؤولين إسرائيليين وتموّل معاركهم الانتخابية، هنا وهناك! لننتبه كم مسؤولًا أميركيًّا يشهد على أنه صهيوني وحامي حمى إسرائيل! لننتبه أن الظاهرة قائمة في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا أيضًا.

لقد اعتدتُ أن أشير إلى اهتمام في كثير من المواقع عبر العالم بملاحقة العلم الفلسطيني وحامليه، وإلى الملاحقة الكيدية في بقاع كثيرة من العالم الغربي لنشطاء سياسيين انتقدوا الحرب وجرائمها. وذلك ضمن حديثي عن المراكز التي تصنع السياسات ذاتها في أكثر من دولة، لأدلّل على سيولة المشاريع السياسية عبر الحدود. وهي سيولة تُنتج ظواهر ومشاهد جديدة لم نعتدها في الماضي؛ مثل أن نرى "مركزًا" ما أقوى من الدولة ويُحدد لها سياساتها في أدقّ التفاصيل، كملاحقة طفل يحمل العلم الفلسطيني في ساحة ألكسندر بلاتس في برلين، أو أن نرى تراجع الدول وحكامها في وجه الرأسمال ومراكزه. وهي لا تشبه "مسايرة" إسرائيل هنا أو هناك وتغطيتها دبلوماسيًّا. فالأميركيّون حاضرون هنا لأنّهم هنا بمصالحهم واعتباراتهم، ولأنه لم يعد هناك معنى للمسافة بين هناك وهنا في السياسة الحالية. ونتنياهو يخطب أمام مجلس الشيوخ والكونغرس لأنه هناك، وله وللفكر اليميني الذي يمثله حضور في الانتخابات الأميركية وفي السياسات وفي مواقع صنع القرار. الذين يموّلون نتنياهو يموّلون عشرات غيره في أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا. وهذا بالتحديد يُضيف إلى السيولة قوة دفع أخرى؛ فالرأسمال قادر على شراء السياسة ـ إذا صحّ التعبير ـ والسياسيين ومراكز صنع القرار والمراكز الأكاديمية والإعلام والإعلاميين، في إطار تكديسه للقوة والقدرة على التأثير وتوجيه كل شيء بما يخدم مصالحه.

يسعى الرأسمال ـ أباطرة المال والشركات والمنتجون ـ في إطار الدولة إلى الحدّ من كل تدخل حكومي في السوق. وهذا يعني إلغاء الرقابة على البضائع ونوعيتها وعلى الاتجار بها. ومن ضمن ما نجح به الرأسمال عبر مساحة كبيرة من العالم هو إلغاء ما كان معلمًا اقتصاديًا أساسيًا في كل اقتصاد وطني، وهو إلغاء أنظمة الحماية الوطنية للإنتاج المحلي. لهذه الحركة ضدّ تدخل الحكومات وفرض قيود على العملية الاقتصادية داخل الدول حركة موازية تسعى إلى الحدّ من تدخل "المراكز" الأممية في سيولة العالم؛ بمعنى الحدّ من أثر القانون الدولي وهيئات الأمم المتحدة المشرفة على تطبيقه في مراقبة السياسات عبر العالم والعلاقات بين الدول أو بين المراكز المتنفذة وبين بقية الدول. وهنا أيضًا رسمت العولمة لنفسها نجاحات كبيرة، بدلالة أن بعض المراكز أقوى من المراكز الأممية وأحكامها. أشير إلى هذا لأعود إلى مسألة السيولة على مستوى الكون، التي تُتيح لنا أن نرى تداخل الحكومات والمراكز في إدارة مناطق من العالم، في الحروب وفي الأزمات، وفي مشاريع وخطط هيمنة واستحواذ. ومن هنا حضور الأميركييين بقوة في صناعة القرار في إسرائيل إلى حدود التطابق. بمعنى أن القرار في غزّة أميركي بامتياز، وأن الحكومة الإسرائيلية اختفت في ثنايا العباءة الأميركية، وكذلك كل "الوعود" المروعة التي أطلقها نتنياهو ووزراؤه لأنفسهم وقاعدتهم الانتخابية. واختفت معها كل التصريحات الإسرائيلية المكابرة بأن إسرائيل دولة مستقلة وقرارها مستقل، وما شابه ذلك من تصريحات تُشير إلى تصوّر ذاتيّ متضخم لا يتماشى مع واقع الحال.

لا يُشكّل تحليلي هنا تقييمًا لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة. كل ما أستطيع قوله في هذا أنه تمّ من منطلقات غير فلسطينية في أساسها، مصلحة الإدارة الأميركية واعتباراتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط والعالم، ومن خشية أن تتحوّل الحرب وفظائعها إلى محرّك لمجتمعات العالم أن تخرج ضد النظام الدولي وإمبراطورياته. وهنا بالتحديد، ظهر التطابق بين حكومات وإدارات في الغرب وفي الشرق، ومن بينها إسرائيل والولايات المتحدة. فالقرار في "حالات الذروة" يُتخذ بالشراكة أو في أروقة المركز الأقوى بعد أن تزول الحدود بين المواقع، فيحلّ نائب الرئيس الأميركي مكان نتنياهو في حسم هذا الأمر أو ذاك.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.