
عرفات، عباس.. ما بين الزعيم والرئيس؟!
لكل زمان دولة ورجال، ولكل رجال بطانة وحاشية تتماشى والوضع القائم ، والانسان لا يولد زعيما انما ينتزع زعامته من مواقفه ، والتاريخ لا يرحم ابدا ، واحد وعشرون عاما مضت على رحيل الزعيم الخالد الشهيد ياسرعرفات ( ابو عمار ) اثر مرض عضال - على الاغلب مُفتعل - ومن بعده تبوء الرئيس محمود عباس ( ابو مازن ) رئاسة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح ، وما زالت السفينة الفلسطينية تائهة تُبحر في بحر هائج مائج تتلاطمها امواج عاتية ، تُبعدها قسرا عن مينائها الشرعي .
ولكن ، لماذا ما زال الشعب الفلسطيني يتغنى بالزعيم ياسرعرفات ، خاصة ابناء حركة فتح ،
وعند اي انتخابات يسارع الفتحاويين الى تشكيل قوائم تحمل شعار " كتلة الشهيد ياسر عرفات " فيما تخلو من اي اشارة الى الرئيس محمود عباس ؟! بالرغم من ان الرئيسين من القيادات التاريخية للنضال الفلسطيني ومن مؤسسي حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية ، وأيضا يُعد الرئيس ابو مازن اخر قيادات الرعيل الاول التاريخين !!
صورة ياسر عرفات بكوفيته التي كانت تُمثل خارطة فلسطين وبزته العسكرية التي لم يُشاهد ابدا من دونها ، ترسخت في ذهن كل فلسطيني ، بسبب دوره كرمز للنضال الوطني الفلسطيني ومُفجر الثورة الفلسطينية التي أيقظت الوعي الوطني للفلسطينيين ، وكقائد تاريخي ، فقد كان رمزا للمقاومة وحاميا لها ، ورمزا للكفاح من أجل تحقيق الاهداف التي انطلقت لاجلها الثورة ، والتي وصفها البعض بثورة المستحيل ، ولولاها لبقيت القضية الفلسطينية مجرد قضية لاجئين ، اهداف مشروعة سعى ياسر عرفات جاهدا الى تحقيقها ، كإعلان الاستقلال وتجسيد آمال الشعب في بناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، كما تميز ابو عمار بمقولاته الحماسية التي الهبت وألهمت الاجيال ، مثل : " النصر آت والفجر آت " وسيرفع شبل من أشبالنا وزهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق مآذن القدس وكنائس القدس شاء من شاء وابى من ابى والي مش عاجبه يشرب من بحر غزة ، وعلى القدس رايحين شهداء بالملايين " ، وغيرها من الشعارات التي ما زالت تتردد على ألسنة الفلسطينيين وعالقة في الذاكرة الفلسطينية ، رغم ان هناك كثيرون اختلفوا معه الا انهم لم يختلفوا عليه ابدا حتى اشد معارضيه اجمع عليه كرمز للحركة التحررية الفلسطينية !! ياسر عرفات كان الفصل
الاطول في الحكاية الفلسطينية بكل تفاصيلها ، افنى حياته لاجل شعبه وقضيته العادلة ، اصاب واخطأ ، ولكن خطأه كان مغفورا لرمزيته التي لم يصل ولن يصل اليها اي كان من بعده ، احترف التكتيك السياسي والعسكري ، مستخدما كافة الاساليب والالتفاف على الحقائق كاسلوب " البيضة والحجر" للهروب من ضغوطات كانت انظمة مختلفة تمارسها عليه للحد من طموحه وكبح جماحه ، واحيانا كان يفتعل الغضب الممزوج بالعاطفة احيانا لترويض من يسعى الى الوقوف في طريقه ولكن دون تعريضه للاذى ، فقد كان دكتاتورا ديموقراطيا ، الا انه كان دائم الحرص على الوحدة الوطنية وجامعا للكل الفلسطيني ، ويعمل ما بوسعه لتمرير قراراته بالشورى ، ينحني احيانا للعواصف لكن دون ان يسقط ، وينتهز اي فرصة تلوح لينهض من جديد ومواصلة المشوار المُعبد بالاشواك والالغام .
الفلسطينيون لم ينظروا اليه كرئيس فقط ، انما كأب يستظل الكل بظلاله ، فقد كان يتدخل
في ادق تفاصيل الحياة اليومية ، ومرتبطا دوما بهموم شعبه المختلفة من الصغير حتى الكبير ، مشاهد عديدة اختصرت عظمته وانسانيته ، مشاهد حملت رسائل مختلفة اهمها ان الكرامة الحقيقية تُستمد من ايدي واقدام اؤلئك المناضلين الشهداء والجرحى والتي لم يتردد ابو عمار قط عن تقبيلها ، وهو ما جعله يعلو شأنا ومكانة في اوساط ابناء شعبه .
أُرغم على المضي في طريق السلام من خلال اتفاقيات اوسلو ، بالرغم من اجحافها بالحقوق الفلسطينية ، إثر ضغوطات شديدة وقاسية واغلاق الابواب بوجهه الا انها كانت محطة تكتيكية لوضع قدمه على الأرض الفلسطينية واعادة الترتيبات وتوظيف النضال الفلسطيني من جديد للوصول الى الاهداف والاحلام المنشودة لشعبه ، فقد حمل البندقية في يد وغصن الزيتون في اليد الاخرى ، ولكن جرت سفنه عكس الرياح التي كان يتمناها لاسباب عدة في اغلبها كانت نتيجة مؤامرات شارك فيها القريب قبل الغريب ، واختتم ابو عمار حياته بعبارة رسمت ملامح مرحلة ما بعده حين قال : " يرودونني اسيرا او طريدا او قتيلا ، لا انا اقول لهم شهيدا شهيدا شهيدا .. " .
ومن دون شك ان غياب الزعيم ياسر عرفات ، وحلول الرئيس محمود عباس مكانه ، ترك تأثيرا سلبيا واضحا على الشعب الفلسطيني وخاصة حركة فتح ، وتحديدا على صعيد البنية القيادية للحركة ، خاصة ان الرئيس محمود عباس والذي لم يرتدي ابدا البزة العسكرية ، انما البدلة " الافرنجية " وربطة العنق الانيقة ، وانتهج ذات الاستراتيجية العرفاتية ولكن بتكتيك وتدبير مختلف جملة وتفصيلا ، الرئيس ابو مازن كان اكثر وضوحا وصراحة وابتعد عن الغموض الذي كان يُخيم على سياسة ياسرعرفات ، فقد أمسك بكافة الخيوط بيده واحتكر القرار الفتحاوي والوطني دون اللجوء الى الشورى فيما بينهم ، واحاط نفسه بحاشية وبطانة من ذات العقيدة ، وانفرد بالقرارات حتى المصيرية منها ، انطلاقا من فهمه للامور بانه الاصح ، والتماهي والمواقف العربية والغربية المتذرعة بالاصلاح ومحاربة الفساد ، والتي يُراد بها باطلا والحاق الاذى والضرر بالشعب الفلسطيني عامة ، وازاحة من يعارضه من طريقه ، الى درجة حرمانه من الامتيازات والحاق العقاب به ، ووضع نفسه والقضية برمتها في سكة اوسلو وحدها ، تلك السكة التي حطمها الاحتلال في سياساته ، دون اي تحريك تكتيكي هنا او هناك يُلحق خسائر في صفوف " الخصم " ، قد تُجبره على العودة الى السكة الصحيحة ، ملغيا فكرة المقاومة المسلحة نهائيا من العقيدة الفلسطينية واصراره على نزع السلاح من اي كان ، مقدما خيار المقاومة الشعبية السلمية التي استغلها الاحتلال افضل استغلال ومارس القمع الوحشي وابتلع مزيد من الارض وانتهك حرمات الشعب الفلسطيني ، حتى المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية المُطلقة لم تسلم من قمعه وقطعان المستوطنين المتطرفين الذين افلتتهم سلطات الاحتلال الرسمية لممارسة ابشع الاعمال العدوانية بحق الفلسطينيين ، وهو ما أثر سلبا على الحياة الفلسطينية بكافة الصعد السياسية والاقتصادية والمعيشية والاجتماعية ، ولم يأبه ابدا بالشارع الفلسطيني المستاء والرافض لسياساته ، سوى القلة من المطبلين المنتفعين ، فيما الاغلبية آثرت الانطواء والابتعاد عن المشهد .
فنرة رئاسة الرئيس محمود عباس استُهلت بانقسام الجغرافية الفلسطينية بين قطاع غزة والضفة الغربية ، وسيطرة حركة حماس على قطاع غزة كاملا ، وهناك من حمل الرئيس ابو مازن مسؤولية هذا الانقسام لرغبته في عدم القتال حرصا على عدم اراقة الدم الفلسطيني ، ما دفعه الى اتخاذ اجراءات عقابية بحق القطاع طالت السكان العاديين ، وباءت من بعد جميع محاولات الوحدة بين شطري الوطن بالفشل ، وهو ما تسبب في نظرة عربية ودولية دونية للقضية الفلسطينية ، وتراجع مكانتها في الاولويات العربية والدولية ، حتى ما قبل السابع من اكتوبر 2023 ، وهو ما يضع علامات استفهام عديدة عن الجدوى من استمرار الانقسام والاستمرار في هذه السياسة التي يُصر عليها الرئيس أبو مازن .
على الرغم من مرور واحد وعشرين عاما على رحيله ، لا يزال الزعيم ياسر عرفات الشخصية المؤثرة الاولى في الحياة الفلسطينية ، ورمزًا يلتف حوله الكثيرون ، ويعتبرونه نموذجًا للوحدة الوطنية والنضال ومقاومة الاحتلال وعدم الرضوخ للابتزازات ، فيما يتزايد الاستياء من شخصية الرئيس محمود عباس وسياسته التي يعتبرها الكثيرون انها ساهمت في شرذمة الوحدة الوطنية وشقت الصف الفلسطيني وعززت من وحشية الاحتلال ، ومن هنا يأتي التغني الفلسطيني بالزعيم ياسر عرفات والاشارة اليه في أي حملات انتخابية والابتعاد عن الإشارة الى الرئيس محمود عباس .

حركة فتح ما بين السلطة والدولة والمقاومة المسلحة

استعادة علاقات الحامي والزبون

حوكمة المؤسسات ومكافحة الفساد في فلسطين: بين الواجب الوطني والالتزام الدولي

نحو رؤية وطنية تُحَوِّل “الهدنة”لإنهاء الاحتلال

زعيم أقوى من النظام: نرجسية ترامب وامتحان الديمقراطية

67 مليار دولار لإعمار غزة: من سيبني الحلم؟

انتهاء مرحلة وبداية لأخرى... والمراجعة المطلوبة
