في سياق التحولات الدولية.. هل يريد ترامب حقًا وقف الإبادة؟
مقالات

في سياق التحولات الدولية.. هل يريد ترامب حقًا وقف الإبادة؟

في مقابلة مع The Daily Caller قبل أيام، صرّح الرئيس دونالد ترامب بأن “إسرائيل قد تكسب الحرب عسكريًا، لكنها لن تنتصر في ميدان العلاقات العامة، وهذا يضرّ بها”، مضيفًا: “كان هناك وقت لا يمكنك فيه انتقاد إسرائيل إذا أردت أن تكون سياسيًا، لكن الوضع تغيّر الآن تمامًا”. وأشار إلى تراجع نفوذ اللوبي الإسرائيلي داخل الكونغرس، وأن أصواتًا مثل ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز وغيرها “غيّرت المعادلة” في الخطاب السياسي الأمريكي.

من الواضح أن إشارة ترامب إلى إمكانية تفوّق إسرائيل عسكريًا مقابل خسارتها الدعم الدولي تعكس إدراكه أن استمرار الحرب “يضرّ بها بلا شك”. هذه التصريحات تعبّر عن تحولات ملموسة في المشهدين الدولي والأمريكي، حيث لم يعد الدعم لإسرائيل مطلقًا أو محصّنًا كما كان. فرغم انحياز ترامب الكامل وشراكته الوطيدة مع حكومة تل أبيب، فقد أقرّ بأن اللوبي الإسرائيلي فقد الكثير من تأثيره داخل الكونغرس مقارنة بما كان عليه قبل عقود. وهذا يبرز تغيّرًا عميقًا في البيئة السياسية الأمريكية، حيث لم يعد ممكنًا تجاهل التحول في نبرة الدعم داخل الحزب الجمهوري نفسه، بالتوازي مع صعود شخصيات تقدمية في الحزب الديمقراطي وأصوات متقدمة داخل الجمهوريين، ما منح السياسيين مساحة أكبر لانتقاد إسرائيل دون خشية من ردود سياسية أو خسارة للدعم الشعبي.

تحمل تصريحات ترامب أيضًا دعوة ضمنية لإنهاء الحرب. فقوله إن إسرائيل “ستضطر لإنهاء هذه الحرب” يعكس ضغطًا غير مباشر للاستجابة للتحولات الدولية، ولو لم تبلغ بعد درجة الحسم، وهو ينطلق من قناعة بأن صورة إسرائيل ومكانتها الدولية تتراجعان بسرعة، وأنها باتت بحاجة ماسة إلى ترميم، من وجهة نظره.

يدرك نتنياهو هذه التحولات، ويبذل أموالًا طائلة لمعالجتها، بما في ذلك الاتفاق مع شركة جوجل ،الذي أعلن عنه عبر وسائل إعلام متعددة، بهدف ترميم صورة إسرائيل. لكنه في الوقت نفسه يصرّ على أن تراجع مكانتها لن يثنيه عن مواصلة حربه لتحقيق الهدف المركزي المتمثل في تصفية القضية الفلسطينية عبر تهجير الغزيين كمرحلة أولى، تليها خطوات متسارعة لضم الأراضي وحشر الشعب الفلسطيني في الضفة ضمن كانتونات معزولة، لا تتجاوز ما يمكن وصفه بـ”روابط المدن”.

مناورة أم بداية صفقة؟

ووفق تقارير متعددة حتى مساء الأحد 8 سبتمبر 2025، فإن الاقتراح الذي أعلنه ترامب عبر منصة Truth Social ، وكان قد وصفه بأنه “الإنذار الأخير” لحماس، مؤكّدًا أن إسرائيل قبلت شروطه، وداعيًا الحركة إلى القبول به أو مواجهة العواقب. وبحسب ما نشرته N12 الإسرائيلية، يتضمن العرض تحرير 48 رهينة في اليوم الأول من وقف إطلاق النار، مقابل إطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، ثم الدخول في مفاوضات لإنهاء الحرب خلال فترة التهدئة. وأعرب ترامب أمام الصحفيين عن تفاؤله بإمكانية التوصل إلى “صفقة قريبة جدًا” تضمن إعادة جميع الرهائن، سواء أحياء أو متوفين. في المقابل، ردّت حماس بأنها تلقّت أفكارًا من الجانب الأمريكي عبر وسطاء، وأبدت استعدادها لتطوير هذه المقترحات، لكنها شددت على مطلبين أساسيين: إعلان واضح بوقف الحرب، وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من غزة.

إلا أن هذا الاقتراح، الذي لم يصدر في بيان رسمي عن البيت الأبيض، وإنما على شكل تغريدة، يثير مخاوف لدى أطراف فلسطينية من أن يكون مجرد محاولة لإعادة تحسين صورة إسرائيل، التي لم ترد على المقترح المصري-القطري، والذي جاء بالتنسيق مع وسطاء ترامب في واشنطن. الأمر الذي عمّق أزمة مكانة إسرائيل لدى حلفاء الولايات المتحدة على المستويين الدولي وربما العربي أيضًا.

نعم، هناك عناصر جادة في التوجه. فالوسطاء نشطون، إسرائيل تأخذ الأمر بجدية، وحماس منفتحة على الحوار.لكن الطابع الإعلامي المترافق مع غموض التفاصيل يلقي بظلال الشك ازاء الاستنتاج بأن الأمر نهائي أو مُعَدّ بالكامل . ومع ذلك، وبغضّ النظر عن احتمال كونه مجرد مناورة لا تحمل ما يكفي من الجدية، فإن من واجب حركة حماس والفصائل الأخرى ألا تنزلق إلى رفضه، بل عليها التعامل معه بأقصى قدر من الجدية والحذر،  لدفعه بمساندة الجميع كي يصبح جديًا بالفعل، وبما يفضي إلى وقف الإبادة . فهذا هو الهدف الأسمى الذي نجمع عليه و يتزايد الدعم الدولي لتحقيقه.

وطالما أن ترامب يريد استعادة جميع المحتجزين الإسرائيليين دفعة واحدة، فإن المطلب الفلسطيني بإعلان واشنطن وقف الحرب يشكّل الحد الأدنى، ويتعيّن على الفلسطينيين جميعًا، ومعهم الدول العربية والإسلامية كل المطالبين بوقف الحرب، مساندته ودفع حلفاء واشنطن إقليميًا ودوليًا لممارسة الضغوط اللازمة لتحقيق ذلك. وربما بات علينا أن ندرك بأن استمرار الاحتفاظ بالمحتجزين لا يوفر ضمانة،بقدر ما يتحول إلى “قميص عثمان”، فإن المطالبة بموقف أمريكي واضح لوقف الحرب، بل، و ربما قرار من مجلس الأمن، تبقى المعيار الأدنى للحكم على مدى جدية هذا الاقتراح، الأمر الذي يتطلب تنسيقاً جديًا مع كافة الأطراف والمجموعات الإقليمية والدولية من قبل الأشقاء في مصر وقطر .

ما بعد الإبادة: التحدي الأكبر

ثمة مسألة أخرى بالغة الأهمية تستوجب التحذير، ،وهي أن تستخلص المقاومة من هذا  الحراك أنه يشكل نصرًا لها وتتصرف داخلياً على أساس ذلك، أو أن يعتبره خصومها هزيمةً لها، وخضوعًا مباشرًا أو غير مباشر لشروط نتنياهو، فقط لإظهار موقفها بأنها كانت على صواب منذ البداية، وأن حماس هي المسؤولة عما آلت إليه الأمور، وكلا الاستنتاجين ينبع من جذر الانقسام والصراع البيني المدمر . فجدية هذا الحراك تنبع أساسًا من طبيعة التحولات الدولية، التي فرضتها التضحيات الهائلة لشعبنا، وجرائم الابادة الجماعية البشعة التي تواصل حكومة تل أبيب ارتكابها، بحيث لم يعد العالم قادرًا على الصمت أو التواطؤ عليها.

أما على الصعيد الداخلي، ففي حال توقفت الإبادة المادية لأهل غزة ومجتمعها، والسياسية للقضية الفلسطينية، فإن الأولوية الوطنية تكمن في الإقرار بأن ترميم السفينة الوطنية غير ممكن دون جهد جماعي يشارك فيه الجميع بقدر استطاعتهم. وهذا الأمر كان مطلوبًا دائمًا، لكنه الآن أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، بعيدًا عن المناورات والإقصاءات والحسابات الضيقة. فالأولوية المطلقة هي لترتيب البيت الداخلي وبث الأمل في نفوس الناس، لا عبر خطابات جوفاء، بل من خلال بناء مؤسسات سياسية وحكومية جامعة وصياغة خطط وطنية قابلة للتنفيذ، أولًا بجهد الفلسطينيين وإرادتهم وسواعدهم. فالأمل بالنسبة للفلسطيني هو السلاح الأهم في مواجهة مخططات التهجير التي ستتضاعف مخاطرها. والحرب الحقيقية ستبدأ بعد توقف العمليات العسكرية، حين تبدأ معركة حصاد أثمانها السياسية، وهناك يتجلى التحدي الأكبر: ماذا نحن فاعلون؟

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.