استنزاف الأبرياء بالنزوح القسري
مقالات

استنزاف الأبرياء بالنزوح القسري

يمكن أن يخبرك أحد النازحين وهو يحمل القليل من المتاع والكثير من التعب والألم، أن هذه المرة العاشرة لنزوحه، فيما يخبرك آخر أنه لا يعرف ترتيب هذه المرة أو أنه قد تعب أيضاً من إحصاء عدد مرات نزوحه، فيما أنه قد تعب من كل شيء حوله فلا شيء من الأساس يمنحه الراحة او الأمان له ولأطفاله، وربما يكون النزوح في نفس المكان او البقعة الجغرافية الضيقة هو الأكثر ألماً وتعباً لهؤلاء المرهَقين والمستنزَفين، والذين لم يعودوا يملكون شيئاً لا مال ولا صحة ولا حتى الأمل.

للمرة التي لا تعرف ترتيبها من عدد المرات ولن تكون الأخيرة، فقد دأب الاحتلال على استخدام هذا الأسلوب القاتل البطيء مع أهالي محافظة غزة وشَمالها، خصوصاً منذ بدأت هذه المقتلة، وإن لم يتوقف بالطبع عن استخدام الأسلوب نفسه والذي يطلق عليه «المرونجية» ويعني تنقل الأشخاص في دائرة ضيقة، بحيث يصابون بالتعب واليأس وفقدان القدرة على التفكير في البحث عن مكان جديد، ولا ننكر ان عدم شعور الإنسان بالاستقرار في مكان واحد ولمدة زمنية طويلة هو من أسباب دماره النفسي، وما يتبعه من نتائج تؤدي إلى انهياره البطيء أمام نفسه وأطفاله.

للمرة التي لا تعرف ترتيبها يتنقل سكان مناطق شمال شرق مدينة غزة، وكذلك جنوب شرقها ويتجهون من الموت السريع إلى المجهول، يحملون متاعهم القليل او ما تبقى لديهم من متاع مهترئ وبالٍ، ويتجهون نحو المجهول او نحو احتمالات اقل من الموت، بمعنى ان الموت لا يزال حاضراً في الوجهة الجديدة، لكنه بموعد متأخر او بصورة مختلفة، فقد يموتون جوعاً وعطشاً وبرداً او من مضاعفات ارتفاع الحرارة، وقد يموتون بسبب القصف العشوائي الذي يطال المناطق التي تصنف أنها مناطق آمنة أو إنسانية، وهذه اكبر كذبة يمكنك ان تسمعها في حياتك، أو الكذبة التي ينام بسبب سماعها ضمير العالم حين يعلن الاحتلال عن تصنيف منطقة غرب غزة على أنها منطقة آمنة، فيما لا يتوقف عن قصفها، وفيما يعلن منذ بداية الحرب أن منطقة مواصي خان يونس هي منطقة إنسانية لكنه ارتكب المجازر المروّعة فيها، بل إننا بتنا نسمع عن أسماء مناطق فيها لم نكن نعرفها، وتخبرنا هذه الأسماء عن المجازر التي تقع رغم ان الاحتلال ألقى منشوراته على سكان شرق المدينة للتوجه إليها، ولكن عليك ان تقتنع ان عدونا كاذب وماكر ومخادع، لذلك فأنت تسمع كل يوم عن مجازر تُرتكب بالتبادل في شارع النصر وشارع الإسطبل وغيرها، وهي مناطق لم نعرفها أبداً قبل الحرب، لأن مواصي خان يونس كانت بالنسبة لنا بقعة خضراء ممتدة لا تنتهي إلا بجمال وروعة شاطئ البحر، أما اليوم فهي ارض القهر والجوع والذل، وحيث يغتسل الجرحى والمتألمون كل صباح بماء البحر الذي اصبح عكِرَ الماء، وكأنه يصرخ مما يعكره من دماء المظلومين والمقهورين.

اليوم وغداً ينتقل النازحون نحو المجهول هرباً من الموت الذي يبتدع العدو في ابتكار أدواته، ولعل استخدام الريبوتات المتفجرة هو أفظع تلك الأدوات، وحيث ان الريبوت المتفجر تصل شظاياه إلى محيط كيلو متر، وبالتالي فهو يكون قاتلاً لمن يبعد عنه من كل الزوايا هذه المسافة، ما يضطر النازحين المتعبين الجوعى النائمين في بقايا البيوت المحترقة والمقصوفة، او النائمين في الخيام على جوانب الطرقات، للهرب ليلاً مع أطفالهم وهم لا يلوون على شيء ولا يحملون أي شيء، في محاولة أخيرة للهروب من الموت نحو المجهول، لأنهم حين يعودون في الصباح يكتشفون انهم قد فقدوا كل شيء، حتى دلو الماء وحتى بقايا الطحين التي كانت في كيس قماشي في زاوية من زوايا الخيمة، لكي تبدأ رحلة جديدة نحو  المجهول، أي البحث من جديد ومن نقطة الصفر عن مكان ومتاع وطعام.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.