ثقافة مثخنة بالجراح: شباب يكبرون على دعوات الانتقام
مقالات

ثقافة مثخنة بالجراح: شباب يكبرون على دعوات الانتقام

وصلتُ إلى كفر قاسم للمشاركة في جنازة أحد الشباب الذين سقطوا ضحية جريمة إطلاق نار. كان الحرّ يلفّ المكان كما يلفّ تموز بسطوته الثقيلة. اقتربتُ من الساحة حيث احتشد عشرات الشباب: أصدقاء الضحية، أقرباء، ومعارف من البلدة وخارجها. السواد غلّف المشهد، ملابس متشابهة تكاد تبدو زيًّا موحّدًا، وعند صفّ السيارات المجاور برزت سيارات "سكودا" التي طغت على المشهد، إلى جانب سيارات فارهة من طراز "بي إم دبليو" و"مرسيدس".

بعض الشباب وقفوا في حلقة دائرية، آخرون جلسوا على الكراسي، فيما انزوى بعضهم في زوايا المكان شاخصين بأبصارهم نحو الأرض، غارقين في صمت أثقلته الأفكار. على وجوههم امتزج حزن عميق بغضب متأجج، غير أنّ الغضب ظلّ مكتومًا حتى لحظة وصول الجثمان.

حين دخلت مركبة نقل الموتى محمّلة بجثمان الشاب، انفرج المشهد كعاصفة: ارتفعت التكبيرات والتهليلات، تعالت صيحات البكاء الصريح، فيما اكتفى آخرون ببكاء مكتوم أو دمعة انزلقت عنوة، بينما تردّد بعضهم في الإفصاح عن دموعهم خشية أن تُفسَّر ضعفًا. في لحظات قليلة، تحوّلت الجنازة إلى ملحمة من الحزن والوعيد، دعوات انتقام وتهديد بالثأر. وعلى القبور، بعد أن ووري الجثمان الثرى وتُلي الدعاء والفاتحة، صرّح الشيخ علنًا بأنه لن يُفتَح بيت عزاء، في رسالة غير مباشرة مفادها أن الردّ على الجريمة قادم لا محالة.

في كل جنازة كهذه أجد نفسي أنظر في عيون الشباب المحيطين، أقرأ فيها أسئلة معلّقة بلا أجوبة، وألمًا يتخفّى وراء مظاهر براقة. يلبسون أحدث الماركات، يقودون سيارات فارهة، يتحدثون بلهجة واثقة، لكن في أعماقهم فراغ قاتل، كأنهم يحاولون الهرب من واقعهم عبر مظاهر القوّة. وجوههم، رغم حداثة أعمارهم، منهكة، متعبة، محمّلة بإرث ثقيل من الدم، تتنفّس في هواء مشبّع برائحة البارود، وتكبر على أصوات الرصاص التي تحوّلت إلى جزء من الحياة اليومية.

وأتساءل: أيّ مستقبل يمكن أن يُبنى على أنقاض الخوف؟ كيف ينشأ جيل لا يعرف سوى أنّ الموت جارٌ دائم يزور الزقاق كل شهر، وأن الانتقام دعاء يُقدَّم على دعاء النجاح؟ في ظلّ غياب العدالة وصمت السلطة المقصود، تتحوّل ثقافة الدم إلى شرعية صامتة، ويصبح الثأر لغة يتوارثها الأبناء كما يتوارثون أسماءهم.

لكن هذه المشاهد لا يمكن فهمها فقط من منظور فردي أو عاطفي، بل إنها تعكس أزمة اجتماعية عميقة. فالشباب الذين ينشأون في بيئة يغيب عنها الأمان ويُسدّ فيها الأفق، يتعلّمون أن العنف وسيلة للحياة، لا استثناء عليها، وأنّ النجاة لا تأتي إلا بالقوّة المادية، سواء كانت سلاحًا أو سيارة أو مظاهر استعراض. علماء الاجتماع يصفون ذلك بـ"ضغط الواقع المسدود": حين يُحرَم الشاب من التعليم والعمل والفرص، يبحث عن بدائل تمنحه مكانة، ويجدها في الهيبة المرتبطة بالسلاح والقوة. ومع تفكّك المؤسسات الاجتماعية ـ المدرسة، العائلة، الأطر المجتمعية ـ ينشأ فراغ يملؤه العنف والجريمة.

والأخطر أنّ التجربة اليومية تُحوّل الجريمة إلى ثقافة متوارثة. الشاب الذي يرى صديقه يُقتل، ويشارك في جنازته، ويشهد الدعوات للانتقام، ينشأ مقتنعًا أنّ هذا هو القانون الحقيقي للحياة، وأن هذه هي المفاهيم التي يتعامل بها المجتمع، ثم يذوّتها. ومع تراكم الصدمات، من صرخة أمّ إلى دمعة أب، تنتقل الجراح من جيل إلى آخر، فتتشكل ذاكرة جمعية غارقة في العنف والدم، وتنشأ ما يسمّى في علم الاجتماع بـ"الثقافة المثخنة بالجراح" (wounded culture).

وحين أغادر كل جنازة، يتأكّد لي أن الأزمة ليست سطحية، بل تهدّد بقاء المجتمع ذاته. وأنّ القادم أشدّ قسوة إن لم يُكسَر هذا الطوق، وإن لم تتوقف هذه الحلقة. مواجهة هذا الواقع لا تبدأ فقط بالدوريات الشرطية، التي ترى فينا في توابيت موتى إنجازًا، بل من إعادة بناء الثقة داخل المجتمع، من ترميم الروابط الاجتماعية، القيم، وبناء قدوة بديلة، ومنح الشباب بدائل حقيقية للانتماء والنجاح.

وقبل أربعة أعوام، كنتُ في جنازة في يافا، وقبل أن أغادر بدقائق، وقف والد الضحية نادر أبو شقرة، وقال من على قبره، بعينين متورّمتين من البكاء، وبصوت مبحوح: "لا أريد الانتقام لابني، أريد فقط أن يكون آخر من يُدفَن برصاص الجريمة. تعبتْ المقابر من شبابنا... وتعبنا نحن من الدفن، وإني أُسامح من قتله".

كانت كلماته أقسى من الرصاص ذاته، لأنها كشفت الحقيقة العارية: ما لم نتدارك الأمر، ستظلّ الأرض تبتلع أبناءها واحدًا تلو الآخر، بلا نهاية. أبو شقرة حقن الدماء وقطع سلسلة الانتقام، ولكن كثيرين لا يمشون في هذا الطريق، واللوم ليس عليهم وحدهم.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.