
"القاضي الأطيب" في العالم
انتشرت على منصّات التواصل الاجتماعي صور وتسجيلات تُظهر القاضي الأميركي فرانك كابريو، الذي شغل منصب رئيس محكمة في مدينة بروفيدنس بولاية رود آيلاند، وقد لُقّب بـ"القاضي الأطيب" نظرًا لأحكامه الرفيقة بالناس، لا سيّما مرتكبي المخالفات البسيطة، خصوصًا في مجال السير.
لم يصدر كابريو أحكامه بصيغة قانونية جافّة، بل نظر في حيثيات كلّ قضية من جوانبها الإنسانية، فتعاطف مع الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، وأسقط عن البعض الفوائد والغرامات المترتبة على تأخير السداد، وراعى ظروف من يساعد والديه المسنّين أو من لم يتأقلم بعد مع القوانين المحلية.
في كثير من الحالات، أبدى تقديره للمتهمين في مخالفات بسيطة، بسبب قيامهم بأعمال إنسانية يومية، كرعاية معاق أو مسن.
هنا يتجلّى الفرق بين القاضي الإنسان الذي يسعى لتحقيق العدالة، وبين القاضي الذي يطبّق القانون بدافع الانتقام، أو يسعى لإيقاع أكبر قدر من الخسائر بالمخالفين، لتدمير حياتهم ورفد ميزانية الدولة على حساب الناس.
كان كابريو يحقق التأديب المطلوب، وفي الوقت ذاته يدعم الجوانب الإيجابية في الإنسان، ويشجّعها.
أحبّه ملايين الناس حول العالم، وتابعوه على منصّات التواصل قبل مرضه، وبعد إعلانه عن إصابته بالسرطان، غمرته الدعوات بالشفاء، ثم الترحّم عليه بعد وفاته قبل أسبوع، تاركًا إرثًا إنسانيًا جميلًا يتناقله مئات الملايين.
نعم، الإنسانية بحاجة إلى قضاة من هذا النوع، لا في قاعات المحاكم فقط، بل في حياتنا اليومية، وفي أحكامنا الاجتماعية والسياسية كذلك.
كان كابريو يقارب كلّ قضية من دون تعصّب أو تشنّج، ولم يفصل النتائج عن الأسباب، كما يحدث غالبًا في أنظمة العدالة الحديثة.
فلنستحضر مثالًا من تاريخنا: الخليفة عمر بن الخطاب عطّل حدّ السرقة في "عام الرمادة"، حين أصاب الناس جوعٌ شديد، فسرق بعضهم ليطعم نفسه أو أولاده. لم يطبّق عمر الحدّ، لأن الجائع لا يُعاقب على سرقته لقوت يومه.
أما في فلسطين المحتلة، فكلّ من يقاوم الاحتلال – حتى بالحجر – يُصنَّف إرهابيًا، ويُحاكم تحت قوانين صُمّمت لخدمة الاحتلال وقمع الشعب الواقع تحته. في المقابل، يمارس المستوطنون أبشع أنواع الإرهاب: من طرد الأهالي من بيوتهم، وسرقة أراضيهم، إلى الاعتداء الجسدي بل والقتل. ومع ذلك، لا يُحاسبون.
تتجاهل القوانين "المتحضّرة" المسبّب الأول لكلّ العنف، وتركّز فقط على ردّ الفعل. والأسوأ، أن البعض يدين الضحية نفسها، ويحمّلها مسؤولية العنف الواقع عليها.
من حقّ الضحايا أن يسألوا أولئك الذين يدينونهم: ما السبيل الذي تقترحونه علينا لحماية أنفسنا وأراضينا وأموالنا من المصادرة والطرد؟ كيف نحمي أطفالنا؟
يحكم الاحتلال على شاب دافع عن أرضه بالحجارة بالسجن لسنوات، ويصفه الإعلام "الديمقراطي" بأنه إرهابي، لمجرد أنه رمى حجرًا على آلية عسكرية!
لا توجد شعوب تمارس العنف من باب التسلية، بل ثمّة ظروف وضغوط وقهر طويل يفضي إلى ما يُسمّى بالتطرّف. لكن فصل النتائج عن أسبابها هو سياسة قديمة هدفها فرض عدالة القويّ على الضعيف، وتشويه صورة الضحية وتحويلها إلى معتدٍ أو مجرم.
هذا الخطاب يتبنّاه جزء كبير من المجتمع الذي يمارس الاضطهاد ويدعم الاحتلال، وينطلي على بعض الرأي العام الخارجي، بل وأحيانًا على الضحية نفسها، فيردّد البعض هذا الخطاب لأهداف سياسية ضيّقة: ليُعفي نفسه من واجب مقاومة الظلم، أو ليبرّر خيانته وتعاونه مع الاحتلال.
الدرس الذي نتعلّمه من القاضي فرانك كابريو هو عدم فصل الجريمة أو الحادثة عن ظروفها وسياقها. فكيف إذا كانت هذه الحادثة هي ردّة فعل شعب يُدافع عن وجوده في وطنه؟
مئات الملايين ترحّموا على القاضي الطيّب من مختلف الجنسيات، لأن الناس، في كل مكان، يطمحون إلى عالم أكثر رأفة، بعيدًا عن التشوّهات التي صنعتها السياسة، وعن أولئك الذين يبنون أمجادهم وثرواتهم على آلام البشر وجراحهم.

عبرٌ من تاريخ سورية

من النازية الفردية إلى النازية المجتمعية: الحالة الإسرائيلية نموذجاً

غزة والاحتلال المستحيل

في الدستور والدستور المؤقت (1- 3)

نقطة ضوء.. قريبا جدا " فلسطين كانتون”

النظام الحزبي الصيني: ابتكار سياسي يقود النهضة ويصنع الفارق

سورية مهدّدة بما هو أخطر من التقسيم!
