
عبرٌ من تاريخ سورية
لم يعد التواصل العلني مع إسرائيل من قِبل النظام الجديد في دمشق أو قيادات درزية سورية محل رفض أو استهجان أو إدانة. فلقاء وزير الخارجية السوري مع وزير إسرائيلي بات خبرا عابرا، عاديا، ويبدو أن بؤس الحالة العربية ومنها السورية جعلت هذه اللقاءات أقل الرذائل، خلافا لما اعتبرت مرة في سورية.
والحقيقة أن العلاقات الإسرائيلية مع قيادات سورية ليست جديدة، وتعود إلى سورية ما قبل الاستقلال، حيث أجرت الكتلة الوطنية في دمشق، التيار السياسي المركزي حينها، اتصالات ولقاءات رسمية مع ممثلين من الوكالة اليهودية في ثلاثينيات القرن الماضي. بل جندت المخابرات الصهيونية حينها عملاء لها في صفوف الكتلة الوطنية. كذلك علاقات الوكالة اليهودية بجبل الدروز ليست جديدة، فقد نشأت منذ أواسط الثلاثينيات بواسطة شخصيات من دروز فلسطين، بهدف منع مشاركة شبان دروز في القتال إلى جانب الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني.
وقد نُسجت أوهام كبرى على هذه الاتصالات والعلاقات، تماما كما يحصل اليوم. فمثلا عوّلت الكتلة الوطنية على إقامة علاقات مع الوكالة اليهودية في فلسطين بحجة استغلال نفوذ اليهود السياسي والاقتصادي في العواصم الغربية، وبذريعة سيطرتهم على الإعلام الغربي، وأن التفاهم مع الوكالة اليهودية ولو على حساب حقوق الشعب العربي الفلسطيني، يخدم هدف الاستقلال السوري. لكن الأهداف الصهيونية من هذه الاتصالات كانت على النقيض. فقد هدفت الحركة الصهيونية من هذه الاتصالات إلى قمع الثورة الفلسطينية الكبرى وقطع الطريق على دعم الشعب السوري للثورة بالرجال والسلاح، وإحداث شرخ بين الحركة الوطنية السورية والحركة الوطنية الفلسطينية، والمساعدة في تهجير الفلسطينيين إلى العراق وغيرها، بهدف إقامة دولة يهودية في فلسطين. كما عارضت الوكالة اليهودية استقلال سورية، بل سعت إلى تمزيقها جغرافيا من خلال تحالفات طائفية.
وكذلك الحال في جبل الدروز، إذ يوفر الدكتور محمود محارب في كتابه "العلاقات السرية بين الوكالة اليهودية وقيادات سورية في أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى" (جسور للترجمة والنشر، بيروت، 2021) العديد من المستندات الصهيونية الرسمية التي توثق تلك العلاقات في ثلاثينيات القرن الماضي، التي بنيت على أوهام من بعض قيادات العرب الدروز بإمكانية مساعدة الوكالة اليهودية لدروز سورية بإقامة إدارة ذاتية من خلال النفوذ اليهودي في الغرب، وتقديم المساعدات الاقتصادية للقرى الدرزية الفقيرة، وتطوير الزراعة من خلال توفير مستشارين زراعيين، وكذلك توفير خدمات طبية، وصولا لمحاولة توريط سلطان باشا الأطرش في مشروع تهجير دروز فلسطين إلى جبل الدروز مقابل المال، من خلال فرية حدوث توتر طائفي بين الثوار الفلسطينيين والقرى الدرزية.
لكن في المقابل، كان هدف الصهيونية من هذه العلاقات ليس تطوير القرى الدرزية في الجبل، ولا تطوير الزراعة والاقتصاد، بل منع الشباب الدروز من الالتحاق بالثورة الفلسطينية، وقبول الدروز بالمشروع الصهيوني على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، وتهجير عشرة آلاف درزي من فلسطين إلى جبل الدروز وشراء أراضيهم. وفشل مخطط التهجير لسببين أساسيين، عدم قدرة الوكالة اليهودية على تمويله خلال الحرب العالمية الثانية، فقد كان شرط التهجير بناء قرى بديلة للدروز في الجبل وشراء أراضيهم في فلسطين، وكذلك رفض معظم الدروز في فلسطين للتهجير أفشل المخطط.
وكأن التاريخ يعيد تكرير نفسه، فلم تربح الكتلة الوطنية السورية شيئا من تعاونها مع الوكالة اليهودية، سوى بعض الأموال لمن تجند للعمالة لصالح الحركة الصهيونية، كما ولم تستغل الوكالة اليهودية نفوذها في الغرب لدعم استقلال سورية، بل بالعكس. ولم يستفد جبل الدروز أي شيء من هذه العلاقات والأوهام الكبرى، فما زال حاله كما هو في تلك الفترة.
وإذا كان أحمد الشرع يفاوض إسرائيل علنا لاتقاء شرها ولزيادة شرعية حكمه في الغرب، وقد فاوض النظام السابق إسرائيل رسميا وعلنا، فإن الكتلة الوطنية فعلت ذلك من قبله في ثلاثينيات القرن الماضي ولم تنل رضا الغرب ولم تتق مطامع الحركة الصهيونية في المشرق العربي. بل كانت انعكاساته كارثية على العرب في حرب 1948، لجهة حجم الاختراق الصهيوني لسورية ونخبها وإعلامها، فقد زرعت الحركة الصهيونية في تلك الفترة 280 مقالا في الصحف السورية، وتملكت خمس صحف سورية ولبنانية للترويج للمشروع الصهيوني وإحداث شرخ بين السوريين والثورة الفلسطينية، كما يوثق كتاب الدكتور محمود محارب.
وإذا كان الشيخ الهجري يبني أوهاما على الاتصالات مع إسرائيل، وأن إسرائيل ستدعم حكما ذاتيا لجبل الدروز وتدعمه اقتصاديا وأمنيا، فإن له في تجربة الثلاثينيات عبرة، فلم يكن هدف الحركة الصهيونية في تلك الفترة من التواصل مع "الشعب الدرزي"، كما كتب أبا حوشي، دعم "حق تقرير المصير"، بل إحداث شرخ بين السوريين والحركة الوطنية الفلسطينية، والتمهيد لتهجير دروز فلسطين إلى الجبل. وللمفارقة أن ذلك كله جرى بوساطة شخصيات من دروز فلسطين، الذين اعتبروا أن نجاح الحركة الصهيونية في بناء اقتصاد يهودي مزدهر في فلسطين سيستنسخ إلى جبل الدروز. وما زال جبل الدروز على فقره بعد نحو عشرة عقود.
وإذا كان تفاوض الشرع مع إسرائيل يجري كرئيس دولة أراضيها محتلة، والدول تفاوض حتى الدولة المحتلة، فإن الشيخ الهجري يتواصل مع إسرائيل كزعيم ديني وليس كرجل دولة، وهذا فارق كبير. وبالمحصلة، لن تنسحب إسرائيل من الأراضي السورية المحتلة، ولن تسلمها لما تعتبر أنه نظام سلفي جهادي، بل ستصر على أن تبقى هذه الأراضي في الجنوب السوري منطقة نفوذ أمني إسرائيلي، كما لن تحارب "حرب الدروز" في سورية.
كأن شيئا لم يتغير؛ فتتودد قيادات سورية من مختلف التوجهات لإسرائيل طمعا في استغلال النفوذ الصهيوني في الغرب لصالحها، تماما كما يتودد عموم قادة العرب لإسرائيل استرضاء للولايات المتحدة. كذلك تودد "قيادات أقليات" لإسرائيل طمعا بالتطور الاقتصادي والمالي والحماية. وكلها أوهام.
لم تحقق الكتلة السورية الاستقلال من خلال استعدادها للتعاون مع الحركة الصهيونية على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، ولم يحقق جبل الدروز الإدارة الذاتية والتطور الزراعي والاقتصادي من خلال التواصل مع الوكالة اليهودية.
قل إنها السذاجة؛ الاعتقاد بأن التفاوض مع إسرائيل هو الطريق إلى قلوب وعقول الغرب والحصول على الشرعية، والتطور الاقتصادي. قل إنه الجهل وضيق الأفق وشح الإمكانات. فتجربة الثلاثينيات بالتفاوض مع الوكالة اليهودية لم تدعم الاستقلال السوري ولا الإدارة الذاتية الدرزية ولا "الاقتصاد الدرزي"، بل من رفع مكانة الدروز عاليا في تاريخ سورية هي مواقفهم الوطنية ونضالهم ضد الاحتلال الفرنسي ومن أجل الاستقلال، كسوريين وطنيين، واضطهاد الدروز قضية سورية وليس قضية درزية.
وأخيرا، عرضت المقال على تشات جي بي تي وطلبت مناقشته معه، وقد خلُص إلى الآتي:
المقترحات والتوصيات
- ضرورة تعزيز الوعي الوطني السياسي، وتفكيك الأوهام حول إمكانية الاعتماد على حلول مؤقتة مع قوى خارجية.
- دعم السياسات التي تعزز الاستقلال الاقتصادي والسيادي، بعيدًا عن إعطاء الفرصة للاستغلال أو الاختراق.
- تكريم النضال الوطني والمقاومة، وليس التواطؤ أو التفاوض اللامحدود الذي لن يؤدي إلا إلى تكرار الأخطاء التاريخية.
- ضرورة فهم الأبعاد التاريخية والسياسية لكل قرار، خاصة في ما يتعلق بالمفاوضات مع قوى احتلال أو نفوذ أجنبي.
واستنادا إلى ما ورد أعلاه من مقترحات وتوصيات تشات جي بي تي، يمكن الإيجاز بما يتعلق بثلاثة لاعبين بالشأن الدرزي السوري: بأن على النظام الجديد في دمشق التعامل مع الدروز كمواطنين سوريين وليس طائفة يمكن تأديبها وإخضاعها من خلال إطلاق يد الفصائل المسلحة لترتكب مجازر جماعية مروعة؛ وأن تحويل احتلال إسرائيل للأرض السورية إلى قضية مفاوضات ثنائية أمنية تخضع لميزان القوى الحالي، يضعف الطرف السوري ويضعه محل تهديد وابتزاز من إسرائيل من خلال تحييد المجتمع والقانون الدوليين؛ وأن على القيادة الدينية الدرزية وتحديدا الهجري الحفاظ على سمعة الدروز الوطنية ومواقفهم النضالية التاريخية في سورية، وعدم التورط بمشاريع إقليمية تناقض وطنية الدروز ومصالحهم كجماعة وكمواطنين سوريين، وعدم تحول العداء للنظام وعقيدته باعتبارهم "دواعش" بنظر الهجري، إلى عداء للدولة السورية؛ وأن على قادة دروز فلسطين بأن يحترموا وطنية إخوانهم باعتبارهم سوريين وليس جماعة طائفية، لأن تحويل الانتماء الدرزي إلى هوية قومية يفاقم الخطر عليهم، سوريا وعربيا، باعتبارهم دعاة انشقاق وتفتيت وتقسيم، وهذا غير صحيح مطلقا؛ بدلا من التشديد على مطلب توحيد سورية على أساس المواطنة المتساوية للجميع.

"القاضي الأطيب" في العالم

من النازية الفردية إلى النازية المجتمعية: الحالة الإسرائيلية نموذجاً

غزة والاحتلال المستحيل

في الدستور والدستور المؤقت (1- 3)

نقطة ضوء.. قريبا جدا " فلسطين كانتون”

النظام الحزبي الصيني: ابتكار سياسي يقود النهضة ويصنع الفارق

سورية مهدّدة بما هو أخطر من التقسيم!
