خارطة طريق بعد السابع من أكتوبر: من الكارثة الشاملة إلى ضرورة الحل
شكّل السابع من أكتوبر لحظة مفصلية أعادت الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي إلى أكثر مراحله خطورة ليس فقط بسبب العملية نفسها بل بسبب ما تلاها من ابادة شاملة وانفلات غير مسبوق للجرائم الاسرائيلية ورغم أن العملية كانت غير محسوبة العواقب ودفع الشعب الفلسطيني ثمنها الفادح فإن الردّ الإسرائيلي تجاوز كل حدود القانون الدولي وارتقى إلى جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان بحق المدنيين في غزة شملت القتل الجماعي والتدمير المنهجي وسياسات التجويع والعقاب الجماعي.
لم تكن هذه الحرب كارثة إنسانية على الفلسطينيين فقط بل إن سياسات الإبادة الجماعية الإسرائيلية التي اتُّبعت فيها أفضت إلى نتائج كارثية على إسرائيل نفسها سياسياً وأخلاقياً واستراتيجياً وعلى استقرار المنطقة بأكملها فالخسارة الأولى كانت فلسطينية بامتياز: آلاف الضحايا من المدنيين، مدن مدمرة، بنية تحتية منهارة وجيل كامل حُرم من التعليم والأمان وشعب لم يُستشر في قرار الحرب لكنه دفع ثمنها وحده.
غير أن الخسارة لم تتوقف عند الفلسطينيين فإسرائيل من خلال ارتكابها جريمة الإبادة الجماعية في غزة حوّلت نفسها كما كانت تدعي زوراً و بهتاناً من دولة ديمقراطية تدّعي الدفاع عن أمنها إلى دولة منبوذة ومعزولة دولياً و أصبح قادتها ملاحقين أمام المحاكم الدولية وتعرّضت صورتها الأخلاقية المزورة لانهيار غير مسبوق و كشف و جهها الحقيقي وارتفعت معدلات هجرة اليهود إلى الخارج في مؤشر خطير على اهتزاز الإحساس بالأمان داخل المجتمع الإسرائيلي إلى جانب خسارة اقتصادية كبيرة وهجرة شركات كبرى من السوق الإسرائيلية.
وفي الوقت ذاته انتفض الشارع العالمي بمسيرات حاشدة في عواصم أوروبا وفي المدن الأمريكية وفي جامعات العالم رفضاً للإبادة الجماعية وحرب التجويع في غزة هذا المشهد لم تشهده القضية الفلسطينية منذ عقود وعكس إدراكاً متزايداً بأن ما يجري لم يعد يُنظر إليه كحرب بل كجريمة بحق الإنسانية.
إذا كان الفلسطيني قد فقد الأمل بالسلام تحت القصف فإن الإسرائيلي بدوره بدأ يفقد الأمل بالحروب فرغم التفوق العسكري وجدت إسرائيل نفسها وقد فتحت جبهات متعددة دون أن تنجح في إغلاق أي منها: في غزة ولبنان ومع سوريا وفي اشتباك مباشر أو غير مباشر مع إيران إضافة إلى مواجهات مع العراق واليمن وتصدّع متزايد في علاقاتها مع العالم العربي وانتفاضة أخلاقية في الشارع الأوروبي وضغوط وانقسامات غير مسبوقة في الشارع الأمريكي إلى جانب أزمة عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه هذه ليست معادلة نصر بل حالة استنزاف شامل تكشف حدود القوة العسكرية عندما تنفصل عن السياسة والأخلاق وتهدد استقرار الدولة والمنطقة معاً .
وسط هذا المشهد تبرز حقيقة لا يمكن تجاوزها كما قال المحلل الإسرائيلي غرشون باسكين: على هذه الأرض يعيش اليوم نحو سبعة ملايين فلسطيني وسبعة ملايين إسرائيلي و إسرائيل لا تستطيع إبادة شعب كامل مهما بلغت قوتها العسكرية دون أن تدفع ثمناً وجودياً والفلسطينيون لا يستطيعون محو إسرائيل أو إنهاء وجود ملايين البشر في ظل دعم أمريكي كامل و إذا كانت الإبادة مستحيلة والحرب طريقًا مسدوداً فإن الحل الواقعي الوحيد المتبقي هو حل الدولتين كخيار سياسي إجباري لا بديل عنه يحفظ الوجود ويوقف النزيف.
بعد هذه الكارثة للطرفين يبرز سؤال جوهري: أين يجب أن يتجه الغضب؟ الجواب ليس في الحقد ولا في الكراهية بل في المساءلة ، مساءلة الاحتلال الإسرائيلي على جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وسياسات التجويع والتدمير وفي الوقت ذاته امتلاك الشجاعة الوطنية لمساءلة أي قيادة فلسطينية اتخذت قرارات مصيرية دون تفويض شعبي وجرّت شعبها إلى كارثة بما في ذلك حماس سواء عبر المسار الشعبي أو من خلال القانون الدولي إن أُتيح ذلك و يتم ذلك ضمن رزمة متكاملة تشمل المساءلة والحل السياسي العادل للفلسطينيين فالعدالة تمنع العنف وتقنع الجميع بأن الحل السياسي أقل كلفة من استمرار لغة الدم .
إن الدعوة إلى المساءلة والعدالة لا تعني نفي الحق المشروع للشعوب الواقعة تحت الاحتلال في مقاومته كما كفله القانون الدولي بل تهدف إلى حماية المدنيين ومنع توظيف هذا الحق في مغامرات سياسية أو عسكرية تُستخدم ذريعة لارتكاب جرائم جماعية بحق الشعب الفلسطيني في ظل عجز دولي و عربي و إسلامي واضح والدولة المستقلة على حدود عام 1967 هي الطريق الوحيد لحماية الشعب الفلسطيني وإنصافه وإنهاء دائرة الدم.
ما بعد السابع من أكتوبر كشف أزمة أعمق من الحرب نفسها ، الفلسطيني فقد الأمل بالسلام والإسرائيلي فقد الإيمان بالحرب كحل وعندما يفقد شعبان الإيمان بالمسارين معاً تصبح المنطقة كلها على حافة انفجار دائم ويصبح استمرار الوضع القائم خطراً وجودياً لا على طرف واحد بل على الجميع ، كما أن استمرار غياب أفق سياسي حقيقي وانعدام أي مسار موثوق نحو السلام أو إنهاء الاحتلال يخلق واقعاً داخل المجتمع الفلسطيني حيث يبدأ جزء من الناس برؤية ما جرى في السابع من أكتوبر لا كخيار مثالي أو مرغوب بل كفعل فرضه اليأس وانسداد الأفق و حين تُغلق أبواب السياسة وتُقمع المطالب المشروعة ويُترك شعب كامل بلا أمل تصبح احتمالات تكرار الانفجار أعلى ويزداد الاستعداد الشعبي لدعم المقاومة المسلحة حتى مع إدراك كلفتها الإنسانية الباهظة و هذه الحقيقة لا تُستخدم لتبرير ما جرى بل للتحذير من أن غياب الحل العادل هو الوصفة الأكيدة لإعادة إنتاج العنف ليس في المنطقة بل في العالم .
إنهاء هذا المسار الانتحاري يتطلب قرارات سياسية شجاعة تبدأ بتغيير القيادات التي تعيش على الخوف والحرب واختيار قيادات تؤمن بالسلام وحل الدولتين وبأن أمن أي طرف لا يُبنى على إبادة الآخر كما يتطلب إنهاء احتكار المتطرفين للقرار لأن استمرارهم في الحكم سواء في إسرائيل أو في الساحة الفلسطينية يعني استمرار الحروب بلا نهاية ولا يمكن لأي عملية سلام أن تنجح دون تحول جذري في الدور الأمريكي يقوم على فهم أن دعم الاحتلال و الإبادة أو تبريرها يقوّض النظام الدولي نفسه وأن حل الدولتين بات ضرورة استراتيجية لا خياراً أخلاقياً فقط.
نزع فتيل العنف يبدأ باعتراف أمريكي واضح بدولة فلسطين على حدود عام 1967 مع ضمانات دولية وأمنية للطرفين يعقبه إطلاق مفاوضات جادة بجدول زمني واضح ومرجعيات القانون الدولي ورقابة دولية تمنع فرض الأمر الواقع بالقوة و تفرد أمريكا بالقرار وفي هذا السياق يتحمل العرب مسؤولية سياسية مباشرة عبر ضغط منظم وفعّال يقوم على مبدأ واضح: لا تطبيع كامل دون قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة لأن السلام الإقليمي لا يمكن أن يُبنى على أنقاض غزة.
وفي المدى الأبعد يبقى السلام مشروعاً إنسانياً طويل الأمد يبدأ من إعادة بناء ثقافة الحياة من خلال التعليم والإعلام والخطاب العام ومواجهة خطاب الكراهية وإعادة الاعتبار لقيمة الإنسان وحقه في الحياة والكرامة ويتم ذلك من خلال العدالة وضمان حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني أولاً .
في المحصلة فإن السابع من أكتوبر وما تلاه من إبادة في غزة كشف نهاية وهمين كبيرين: وهم أن القوة العسكرية تصنع الأمن ووهم أن الدم يمكن أن يكون بديلاً عن السياسة و الطريق الوحيد القابل للحياة هو سلام عادل قائم على دولتين ومساءلة قانونية وكرامة إنسانية متساوية وكل تأخير في هذا المسار ليس حياداً بل مشاركة في إدامة الكارثة.
من القهر إلى التحرر: مستقبل التعليم الفلسطيني في زمن الصمود والمعرفة .
التحولات الديموغرافية تغير وجه إسرائيل
حركة فتح وأزماتها الداخلية
الاحتيال المالي الإلكتروني … حين تتحوّل التكنولوجيا إلى فخٍّ لسرقة الثقة والأموال
التجفيف: هندسة النزوح لإفراغ الأرض في الضفة الغربية
مستشفى رام الله الحكومي... شكراً
إبداع في التنظير النقدي وخلل في التدبير العملي؟











