في المواجهة الأخلاقية للتوحّش الإسرائيلي
منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، ولا سيّما بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، ظهرت داخل المجتمع الإسرائيلي أصوات فكرية وكتابية وُصفت آنذاك بـ"العاقلة"، من أمثال يشعياهو ليبوفيتش ويسرائيل شاحك، حذّرت من العواقب الأخلاقية والسياسية للعنف الاستعماري، ومن ارتداده الحتمي على المجتمع الإسرائيلي ذاته. وقد ركّزت هذه التحذيرات على الاحتلال بوصفه مصدر تفسخ داخلي، لا مجرد أزمة أخلاقية عابرة.
غير أنّ هذه الأصوات، وتلك المحسوبة على ما يسمى باليسار الصهيوني، على محدوديتها، أخفقت في تشخيص الجذر الحقيقي للعنف. فهي، رغم نقدها للاحتلال، لم ترَ في المشروع الصهيوني ذاته، ولا في النكبة بوصفها فعل اقتلاع استعماري شامل ومستمر، أصل هذا العنف وبنيته التكوينية. ولذلك لم تستطع أن تتوقّع، أو تتخيّل، تحوّل هذا العنف إلى عنف مطلق، إلى إبادة تُمارس ببرودة أعصاب، وبمشاركة الدولة والمجتمع معًا، وبغطاء توراتي - سياسي صريح. كما لم تتنبّه إلى حجم الاصطفاف الغربي المخزي إلى جانب حرب الإبادة، في تناقض فاضح مع الموقف الغربي من النازية، التي جرى إسقاط نظامها ومحاكمته، لا تبريره وحمايته.
في الأسابيع الأولى لحرب الإبادة على غزة، اعتقد كثيرون في الغرب - باستثناء أصحاب المواقف الإنسانية والتقدمية الجذرية - أنّ ما تقوم به إسرائيل هو "دفاع عن النفس"، أو رد فعل طبيعي على ضربة غير متوقعة. لكن الوقائع الصادمة سرعان ما تكشّفت. كانت الحقيقة الأولى حجم الدمار الهائل والقتل المنهجي واسع النطاق. أما الحقيقة الثانية، والأخطر، فتمثلت في البنية الأيديولوجية الشعبية، المستندة إلى تأويلات توراتية تبيح قتل الصغير والكبير بلا تمييز ولا رحمة.
وتفاقمت الصدمة مع مشاهد الابتهاج الشعبي بالقتل، وانتشار تصريحات وصور لجنود وضباط ومواطنين تعكس فاشية عارية، بلا مواربة.
وقد أكدت استطلاعات الرأي الإسرائيلية هذه الصورة، حين أظهرت أنّ أكثر من 80% من الإسرائيليين يؤيدون "التخلص الجسدي" من الفلسطينيين. وبات جميع الفلسطينيين، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون تحت المواطنة الإسرائيلية، رازحين تحت منظومة شاملة من السيطرة والتطهير العرقي والرعب. ويتجلى ذلك في القمع السياسي المكثف، وفي الاعتداءات المتكررة من قبل المستوطنين والمواطنين الإسرائيليين في الفضاء العام، كما حدث في يافا مؤخرًا، حين تعرّضت امرأة حامل لاعتداء عنصري. هذه الوقائع لا تعبّر عن حوادث معزولة، بل عن حالة مجتمعية عامة، وتنذر بتهديد دائم ومتصاعد. وتشكل الوقفة المشرفة لأهالي يافا في مواجهة هذا الاعتداء، الذي هو استمرار لاعتداءات باتت روتينية، نموذجًا حيًا للمقاومة الشعبية المدنية، ذات البعد الإنساني القادر على توفير نفس طويل، وتحقيق أثر تراكمي وثمار مؤكدة.
كلّ ذلك أعاد التأكيد أنّنا لسنا أمام نوبة جنون عابرة، ولا أمام انفلات ظرفي، بل أمام عقلية إباديّة متجذّرة، تشكّلت عبر عقود من هندسة الوعي منذ النكبة، من خلال الأدب، والمناهج التعليمية الرسمية، والمؤسسة العسكرية، وسائر أجهزة الكيان. هذه الحقيقة باتت اليوم مكشوفة على نطاق عالمي، لا لأن "أعداء إسرائيل" يخوضون حرب دعاية، بل لأن إسرائيل نفسها كشفت عنها عبر أفعالها الإجرامية، وخطابها الإعلامي المسموم، وممارساتها اليومية. وهي حقائق سبق أن كشفها ما عُرف بـ"المؤرخين اليهود الجدد"، لكنها ظلّت محصورة طويلًا في أطر أكاديمية ضيقة.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: كيف يمكن تفكيك هذه التعبئة الأيديولوجية اللاإنسانية؟ هل يمكن استئصالها أصلًا؟ وهل من الممكن إعادة تأهيل مجتمع استيطاني خضع لعملية تنشئة ممنهجة وغسل دماغ طويل الأمد، تبنّى نظرة فوقية دموية تجاه الفلسطيني، والعربي؟ وهل يمكن إعادة توجيه التربية والتعليم نحو قيم إنسانية تحرّرية؟ تُظهر الأكاديمية التقدمية رونيت بيلد، في دراستها المهمة حول المناهج التعليمية الإسرائيلية، كيف يُبنى وعي الطفل على قيم كولونيالية ولا إنسانية، ما يعني أنّ هذه التعبئة العميقة لا يمكن أن تتلاشى في زمن قصير، ولا أن تُكسر دون ضغوط دولية رسمية وشعبية، وضغوط فلسطينية وعربية واسعة ومكثفة، تؤدي إلى تفكيك المنظومة الصهيونية واستبدالها بمنظومة ديمقراطية دستورية تستعيد فلسطين محررة وحرة، وتضمن العدالة لمن يعيش فيها، ولمن طُرد.
لقد بات هذا الكيان لا يشكّل خطرًا على الفلسطينيين وحدهم، ولا حتى على ذاته فقط، بل على العالم بأسره. فهو يدفع البشرية نحو مزيد من الحروب، والتوسع، والعنصرية، وكراهية الآخر، بما يفاقم مظاهر الفقر والبؤس واللجوء في مناطق واسعة من العالم.
وأمام هذا الواقع، يجد شعبنا الفلسطيني نفسه أمام تحدٍّ أخلاقي تاريخي في مواجهة الوحش الإبادي. تحدٍّ يفرض التمسك بالموقف الإنساني والأخلاقي، ليس بوصفه ترفًا أخلاقيًا، بل باعتباره شرطًا من شروط الانتصار، إذ إن العنصرية، في نهاية المطاف، ترتد على ممارسيها. ومن هنا تبرز ضرورة الاستمرار في التمييز الواضح بين الصهيونية واليهودية، بين إسرائيل واليهود. ويشكّل ما قام به المواطن الأسترالي من أصل سوري، أحمد الأحمد، حين انقضّ على مجرم داعشي ومنع ارتكاب مجزرة بحق اليهود، نموذجًا إنسانيًا رفيعًا يُحتذى، ويعبّر عن جوهر هذا الموقف الأخلاقي.
إنها معركة طويلة، قاسية ومؤلمة، تتطلب صمودًا ماديًا ومعنويًا وأخلاقيًا، وتخطيطًا يأخذ في الحسبان موازين القوى المحلية، والظروف الدولية، والبعد الإنساني والأخلاقي لقضية فلسطين، بوصفها جزءًا لا يتجزأ من نضال الشعوب كافة ضد الكولونيالية والاستغلال الرأسمالي.
الإصلاح تحت الاختبار: هل نُصلح الأرقام أم نُصلح المسار؟
غزة: بين مأزق الإنقاذ واستحقاق التحرر الوطني
مواقفهم تخفي حقدهم على قطاع غزة
بضاعتهم ردت إليهم
بين التهويل والواقع: هل تتسع الهوة فعلاً بين إسرائيل والولايات المتحدة؟
اعتداء يافا وأهمية الرّد عليه...
إحلال الواردات الفلسطينية ... خطوة نحو تعزيز المَنَعة الاقتصادية











