بأخذ من عمري وبعطيها...
لطالما سمعت أغنية راغب علامة التي يقول فيها: "بأخذ من عمري وبعطيها"! وكنت أهمس لنفسي دائمًا وأقول: "ليس في قدرة الإنسان أن يعطي من عمره لأحد، فلكل واحد منّا عمره المحدود، ولا يستطيع أن يتصرف به".
بإمكانك أن تعطي هدايا من كل لون وشكل وثمن، إلا من سنين وأيام عمرك؛ لا تستطيع أن تهدي أحدًا، ولا حتى دقيقة.
اكتشفت لاحقًا، وبعد تجربة حياتية، أن راغب علامة كان مُحقًّا، وأن الإنسان ممكن أن يعطي من عمره إذا شاء ذلك، وفي أحيان كثيرة، يدفع من عمره رغم أنفه.
عندما يطلب منك صديق أن تخصّص من وقتك ساعة لمراجعة مادة كتبها مثلًا، ويطلب منك أن تساعده في ترتيبها، فأنت منحت من عمرك ساعة أو ساعات لهذا الصديق. وعندما تسافر إلى عمل ما، ويتصدى لك انسداد مروري لأكثر من ساعة، فأنت منحت الشارع من عمرك ساعة.
الانسدادات المرورية تحوّلت إلى وباء خطير، يسرق من ساعات أعمارنا بلا حساب.
باعتقادي أن هنالك خللًا كبيرًا يجب أن يُحاسب عليه المسؤولون في وزارة المواصلات، من يخططون ومن ينفّذون هذه الأعمال. هنالك من يحرق من عمره ساعة إضافية على الطريق بسبب الانسدادات، وقد يهدر البعض ساعة ونصفًا في الذهاب والإياب، وأكثر منها في الانسدادات التي تحوّلت إلى حالة طبيعية في البلاد، حتى على الشارع السريع.
من يصرف ساعة ونصفًا في اليوم في الانسدادات يعني حوالي 550 ساعة في العام، وهي عبارة عن 23 يومًا من عمره في السنة الواحدة. هذا يعني ملايين أيام العمل، إضافة إلى الخسائر المادية الكبيرة المتمثلة بالوقود الذي يُصرف خلال هذه الانسدادات، والتأخّر في الوصول إلى أماكن العمل أو إلى موعد ما.
ولكن الأخطر من الخسائر المادية، هو الحالة العصبية التي تسود الشوارع. فجميع من أعاقت حركتهم الانسدادات المرورية، يبحثون عن منافذ وطرق أخرى أقصر، وكلما أتيحت لهم الفرصة لزيادة السرعة داسوا على دواسة البنزين أكثر لإغلاق الهوّة الزمنية التي نشأت بسبب الانسداد المروري. ولهذا ترى بعد الخروج من الانسدادات كيف تتحوّل آلاف السيارات إلى صواريخ عابرة للمدن، تحاول أن تسبق الإشارة قبل تحوّلها من الأخضر إلى الأحمر، ومن مسافات بعيدة، أو أن تتخطى بضع شاحنات وسيارات أمامها، ووراءها من يطاردها ويحاول تخطيها، ويضيء لها مصابيح سيارته لتتنحى جانبًا لأن صاروخًا آخر قادم من ورائها. فتضطر إما إلى إرغامه على الإبطاء، أو الهرب من وجهه وإتاحة الطريق له.
تسمع من المذياع نشرة عن وضع الشوارع، فيذكرون عشرات المفارق والشوارع التي تشهد اختناقات مرورية، حتى يبدو أن البلاد كلها في حالة انسداد.
غريب أن يعاني بلد متطوّر جدًا على مستوى العالم في مجالات مهمة مثل الصناعات الدقيقة، لكنه فاشل في حل معضلة المواصلات.
هذا الفشل ليس بين المدن وعلى الشوارع الرئيسية فقط، إنّه في داخل المدن والقرى كذلك. أما في البلدات العربية، فحدّث ولا حرج. إنه إهدار كارثي بكل معنى الكلمة للوقت والأعصاب.
عندما تبدأ مرحلة عمل في الشوارع الداخلية، تستغرق فترات غير معقولة، يصل بعضها إلى سنوات.
أضف إلى هذا المطبات في شوارعنا، التي تُقام لإرغام السائقين على تخفيض السرعة، إلا أن أكثرها مصنوع بصورة عفوية وفوضوية، وكأن من يقيمها يريد للسيارات أن تتوقف لا أن تتمهل، بل وفي بعضها أن تتحطم. ورغم وجود معايير معروفة لهذه المطبات، إلا أنك نادرًا ما تجدها في قرية عربية. ووتتحمل السلطة المحلية مسؤولية، وكذلك الأهالي.
يدّعي البعض أن السائق العربي، وخصوصًا الجيل الشاب، بحاجة إلى هذه المطبات! لأنهم لا يلتزمون بالسرعة المحددة داخل الأماكن المأهولة!
حسنًا، ولكن ماذا بعد المطب؟ ألن يعود بعده مرة أخرى إلى السرعة؟
نعم، نحن بحاجة لمطبات، ولكن حسب المعايير المهنية.
هذا يحيلنا إلى أخلاقيات القيادة والتصرف في الشارع، وهذا لا يعفي المسؤولين من الفوضى التي تستمر لسنوات لإعادة تزفيت أو توسيع شارع، حتى إن الوصول إلى بعض الشوارع بات يسبب معاناة حقيقية للناس.
نضيف إلى هذا أن كثيرين من السائقين لا يعترفون بالإشارات المرورية داخل البلدات العربية، وليس نادرًا أن ترى سيارات تسير في الاتجاه المعاكس، وذلك بدلًا من دورة كبيرة حول البلدة لقطع مسافة مئة متر.
جميل أن تعطي من عمرك ساعات لأصدقائك، وأيامًا وأشهرًا وسنوات لأبناء أسرتك، ولكن إهدار وقتك وأعصابك في الانسدادات المرورية، والانتظار الطويل بسبب سوء تخطيط وتوقيت تنفيذ توسيع شارع، فهذه عبثية.
الفساد فيما تسمى المساعدات الإنسانية لغزة
الإقتصاد القادم...
قرار 2803 خطر أم فرصة
الطبقة السياسية الفلسطينية غير محصنة من الاختراق
غزة بين الوصاية الأمريكية والمستوطنين: رفض قرار مجلس الأمن وكشف الدور الأمريكي
التحول الرقمي في فلسطين بين الهيمنة التكنولوجية وفرص الاستقلال السيادي
بين إعلان شرم الشيخ وقرار مجلس الأمن المأساة الإنسانية في غزة متواصلة










