
بعد طيّ حرب الإبادة: كيف نواجه مخططات الإبادة السياسية؟
جاء الإعلان الدولي بقيادة ترامب عن إنهاء الحرب بفعل: أولًا، حجم الكارثة الإنسانية التي خلفتها حرب الإبادة، وثانيًا، الانتفاضة الكونية التي انتصرت لضحايا غزة، طاويةً معها الرواية الصهيونية القائمة على انكار وجود الشعب الفلسطيني، حيث خرج مئات الملايين من شعوب الأرض نصرة للعدالة في فلسطين، وداعيةً لوقف الابادة، وبما يشمل أصوات هامة وعلى نطاق واسع وغير مسبوق من يهود العالم، بما في ذلك في اسرائيل ضد الابادة التي ارتكبها حكام تل أبيب . الكارثة الإنسانية على كل المستويات هي صاحبة الفضل في إسقاط زيف الرواية الصهيونية وإعادة الاعتبار للرواية الفلسطينية. فلا أحد غير هؤلاء الضحايا يحق له إعلان النصر الذي انتصر فيه الدم على السيف. نعم، لقد انتزع الضحايا من أنياب المجرم نصرًا يحق لهم أن يطلقوا عليه بجدارة يوم الكارثة والبطولة. بسقوط هذه الرواية العنصرية، سقط معها كل من حاول لوم الضحية كما فعل الجلاد، كما سقطت “الهاسبراه” الصهيونية في معقلها الأمريكي نفسه. وثالثاً أن ذلك كله فرض عزلة غير مسبوقة على اسرائيل والنظر إليها كدولة مارقة، وليس فقط تعتبر نفسها فوق القانون الدولي بدعم واشنطن، وقد قرأ ترامب هذه المتغيرات التي يعيشها الرأي العام الأمريكي، سيما في أوساط اليهود، وكذلك في بيته الجمهوري كما تؤكده كافة الاستطلاعات، مما دفعه للتحرك لإنقاذ اسرائيل من عزلتها ومن نفسها. و رابعًا و ربما لا يقل أهمية وهو فشل الخيار العسكري رغم كل الدعم العسكري الذي قدمته واشنطن وتباهي به ترامب في خطابه أمام الكنيست، فهذه العسكرتاريا المجنونة لم تجلب لاسرائيل سوى العزلة وعار الابادة الذي لن يمحى من التاريخ.
لحظة أمل في انتصار الحياة على الموت
جاء هذا الإنجاز بمثابة لحظة أمل بانتصار الحياة على الموت والنجاة من أتون الإبادة الجماعية التي حصدت ما يقارب ربع مليون إنسان من الأرواح البريئة وأجساد الجرحى بقذائف ترامب المطوَّرة، والهشة جراء التجويع؛ أي ما يعادل ربع سكان تلك البقعة الجغرافية الضيقة التي تُعدّ من الأكثر كثافة سكانية في العالم، بعد أن دمرت العنصرية الفاشية كل مقومات حياتهم في مدن وبلدات القطاع ومخيماته، صانعة الثورة والانتفاضتين ومعارك الصمود والبقاء. لقد أظهرت صلابتهم الأسطورية غير المسبوقة في التاريخ مدى جدارتهم بالحياة والتشبث بالرواية والأرض المجبولة بنهرٍ من دماء أطفالها ونسائها وشيوخها، وقدمت معنىً إضافيًا لما مثلته غزة عبر عقود طويلة كرافعةٍ للوطنية الفلسطينية التي تشربها الفلسطينيون على الطريقة الغزاوية منذ النكبة، وباتت نموذجًا لشعوب الأرض المناضلة من أجل الحرية والكرامة الوطنية والعدالة الإنسانية.
قد يتساءل البعض: من هم هؤلاء البشر الذين خرجوا من بيوتهم وأرضهم حفاةً عراةً، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء إثر نكبة عام 1948؟ وكيف باتوا بهذا العناد والوطنية الحقة؟ ببساطة، لأنهم رفضوا تكرار خديعة الأنظمة التي سلّمت فلسطين، وأصبح ظهرهم للحائط، وكانوا كما قال درويش:
“إن غَزَّة تُحرِّر نفسها وتاريخها كلّ ساعة،
وتصون قِيَمَها بالاقتراب الشديد…
بالالتصاق… بالالتحام بالموت.
لم تعد غَزَّة مدينة، إنها ساحة حربٍ مشتعلة
تُمتحن فيها انتصارات العدوِّ وآماله وقِيَمه.
ليس بوسع العدوِّ أن يقول إنه انتصر على غَزَّة،
فالاحتلال ليس هو النصر النِّهائي،
إرادة غَزَّة باقية في التماع الحقِّ والدم”
اليوم، تُسائلنا غزة بدمها المدرار على مذبح الحرية: كيف يبقى للدم المسفوك وهجُ الحياة، في زمنٍ تتفجر فيه الإبادة كأقصى امتحانٍ للإنسانية؟ وكيف لا تذهب تضحياتها هدَرًا؟ وهنا يكمن الامتحان أمام أصحاب القرار الوطني في مواجهة فاشية لا ترحم الضعفاء.
الدرس الغزاوي: دفن الترانسفير ومنع استكمال نكبتنا
إذا كانت نقطة الضعف في امتحان غزة الكبير هي كيف تُركت وحيدةً مع دمها المسفوك، رغم انفراد صُنّاع قرار الانفجار في امتحان الحرية، فهل ذلك الانفراد يبرر مثل هذا الخذلان أو انتظار استسلامها، بل ودعوتها لذلك؟ فوجع الناس في غزة فاق قدرة البشر على الاحتمال، ولكن وعي تجربة أهلها أن الاستسلام أمام من يسعى لتصفية حقوق شعبهم هو الموت الزؤام، الذي لا تقبله شكيمة صنّاع الحياة، حُرّاس الكرامة، رغم العذابات والفقدان وإعدام كل سبل الحياة. فنصر غزة هنا تمثّل في منع انتصار الجلاد على الضحية، وعدالة حقوقها التي أعادت للإنسانية شرفها في مدن وعواصم الأرض قاطبة.
لم يكن استمرار الإبادة لعامين كاملين قدرًا لو سُيّج وجع غزة بوحدة طال انتظارها. وهل أغلى من الدم وأرواح الأطفال التي أُزهقت في شوارع مخيماتها وأحياء مدنها الفقيرة كي تصل صرخات اليتامى مطالبةً بهذه الوحدة؟ وهل هناك أعزَّ من وحدة الكرامة التي تصون وصية الدم والعهد؟
انتصرت غزة على جلاديها ومجرمي إبادتها، ولكنها لن تستطيع وحدها أن تصون عهد الشهداء والحقوق التي قدّموا أرواحهم من أجلها. انتصرت غزة على وجعها. فانتصرت لها شعوب الأرض التي تخوض معركة العدل والكرامة واستعادة القيم الإنسانية التي يدوسها تجار الحروب والمتباهون بصناعاتهم العسكرية.
إعلان وقف الحرب كان مستحقًا، ولكنه افتقد إلى الحس بهول التضحيات، وبقيت مرةً أخرى أسئلة الغزّاويين تلمع في سماءٍ تبدو فارغة: هل ستكون قياداتهم بمستوى تضحياتهم وعذاباتهم؟ هل نضج سؤال الوحدة، والتي بسب غيابها شاهدنا جميعًا محاولة تغييب فلسطين في محفل إعلان وقف الحرب، عن أعز بقعةٍ فيها، وهي تدافع عن كرامة وحقوق الشعب بأسره، وبما يكشف نوايا مبيتة لإقصائها ؟ متى تكون بوصلتنا فلسطينية خالصة كي ترسو سفينتنا على بر الأمان؟ وهل آن أوان الانصياع لإرادة شعبنا بالوحدة؟
أهل غزة يستحقون منا الإصغاء لأنّات الثكالى واليتامى وأنين الجرحى والمكلومين والمشرّدين، ليس فقط لنقدّم لهم مواساة في أكبر وأطول بيت عزاءٍ جماعي في التاريخ، بل ولنقدّم لهم الأمل بحياةٍ أفضل. وهل من أملٍ صادقٍ خارج نطاق الوفاق والوحدة وإلقاء كل ما علق بمسيرتنا من فئويةٍ وأنانيةٍ جانبًا؟
هذا ما تنتظره منا غزة وأهلها حتى نكون أوفياء ليس فقط لعذاباتهم وتضحياتهم، بل ولنكون أوفياء لشعبنا ومقدساته وحريته وكرامته وعدالة قضيته التي استحقت صحوة الشعوب قاطبة. فهل ستصلنا هذه الصحوة؟ وهل نقدم على وفاق حتى لو أغضب العدو؟ فحرية الأوطان لا تتحق بالانصياع لصيغ حلولٍ وفق مقاساته، بل بالوحدة الوطنية وصون التماسك الوطني والاجتماعي .

من الدمار إلى الإعمار: د.فايز المصري يعطي رؤية حول سياسات حوكمة إعادة بناء غزة

الاسرى الصفحة المغيبة في القاموس الفلسطيني ؟

صفقة بلا سلام : وهم على الورق ودماء على الأرض

يحدُث في الضفة الغربيّة

مستقبل حركة حماس في قطاع غزة وفي المشهد السياسي عموما

غزة... حين ينهار الاقتصاد قبل الإعمار

إلى أين... أوسلو ناقص أو زائد أم دولة واستقلال؟
