
"طوفان الأقصى": الزلزال الذي غيّر وجه الشرق الأوسط وأعاد رسم مستقبل القضية الفلسطينية
في السابع من أكتوبر 2023، لم تكن سماء غزة وحدها هي التي اشتعلت بنيران الصواريخ، بل اشتعلت معها كل حسابات القوى العظمى وخرائط التحالفات الإقليمية التي بُنيت لعقود. "طوفان الأقصى" لم يكن مجرد هجوم عسكري تقليدي، بل كان زلزالاً استراتيجياً اهتزت له أركان أقوى الجيوش وأذكى أجهزة الاستخبارات العالمية.
ما بدأ كعملية مفاجئة من قلب قطاع محاصر تحوّل إلى نقطة تحول تاريخية أعادت القضية الفلسطينية من غياهب النسيان إلى واجهة السياسة العالمية. لقد كسرت هذه الأحداث قواعد اللعبة الإقليمية، وقلبت موازين القوى رأساً على عقب، وأجبرت العالم على إعادة النظر في كل المسلمات التي كانت تحكم الصراع العربي الإسرائيلي.
من أروقة الأمم المتحدة إلى مكاتب صناع القرار في واشنطن وموسكو، من شوارع العواصم العربية إلى ميادين التظاهر في أوروبا، أصبح الجميع يسأل: كيف استطاعت قوة صغيرة أن تهز إمبراطورية عسكرية عظمى؟ كيف تحوّل المشروع الصهيوني من نمرٍ مخيف إلى عملاقٍ من طين؟ وما هي التبعات الجيوسياسية التي سيعيشها الشرق الأوسط لسنوات قادمة؟
هذا المقال يحلل بعمق التحولات الاستراتيجية الكبرى التي أحدثها "طوفان الأقصى"، من انهيار نظرية الردع الإسرائيلية إلى بروز لاعبين جدد على الساحة الإقليمية، ومن تحولات المواقف الدولية إلى التداعيات العميقة على الداخل الإسرائيلي. إنه رحلة في قلب أعظم تحول تشهده المنطقة منذ حرب 1973، وتحليل استشرافي لمستقبل أصبح أكثر غموضاً وتعقيداً.
هذا هو زلزال أكتوبر... وهذه هي قصته الكاملة.
طوفان الأقصى: الزلزال الذي أعاد تشكيل القضية الفلسطينية والشرق الأوسط
مقدمة : من التهميش إلى مركز الصدارة
شكلت أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 نقطة تحول تاريخية في مسار القضية الفلسطينية والتحولات الإقليمية في الشرق الأوسط. لم يكن "طوفان الأقصى" مجرد عملية عسكرية، بل كان زلزالاً جيوسياسياً أعاد رسم الخرائط السياسية والفكرية للمنطقة، وكشف عن هشاشة المشاريع التي كانت تُعتبر مسلّمات في السياسة الدولية.
ما قبل الطوفان: استقرار هش وترتيبات مشبوهة
التهميش المتعمد للقضية الفلسطينية
كانت القضية الفلسطينية تعيش مرحلة "التهميش المتعمد “على الساحة الدولية قبل أكتوبر 2023. فقد تجمدت عملية السلام بشكل كامل، بينما كانت السلطة الفلسطينية تواجه أزمات داخلية وخارجية متعددة. في المقابل، كانت إسرائيل تتبنى استراتيجية واضحة تقوم على "إدارة الصراع" بدلاً من حله، مع العمل على إضعاف السلطة الفلسطينية والإبقاء عليها حية لكن غير قادرة على القيام بدور فاعل.
صعود الترتيبات الإبراهيمية 2 وتوسعها
شهدت الفترة السابقة للطوفان توسعاً ملحوظاً في اتفاقيات التطبيع العربية-الإسرائيلية (الترتيبات الإبراهيمية) التي بدأت عام 2020. كانت هذه الاتفاقيات تشكل تحولاً جذرياً في الأولويات العربية، حيث أصبحت المصالح الاقتصادية والأمنية تطغى على الدعم التقليدي للقضية الفلسطينية. الأهم من ذلك، كانت هناك مفاوضات متقدمة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية ، مما كان سيشكل ضربة قاسية للمشروع الوطني الفلسطيني.
الرؤية الإسرائيلية لإدارة الصراع
تبنى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "تصوراً أمنياً-سياسياً" يعتمد على منع إقامة دولة فلسطينية والاستمرار في إدارة الصراع بدلاً من حله. تقوم هذه الرؤية على إبقاء السلطة الفلسطينية ضعيفة مع السماح لحماس بالبقاء في غزة لكن دون تمكينها عسكرياً. كانت الساحة الفلسطينية تحتل ترتيباً متأخراً في سلم الأولويات الأمنية الإسرائيلية، حيث ركزت التقديرات الاستراتيجية على التهديد النووي الإيراني وحزب الله في الجبهة الشمالية.
الطوفان وما بعده: تحولات جيوسياسية عميقة
الإنجازات الفلسطينية على المستوى الدولي
أعاد طوفان الأقصى القضية الفلسطينية بقوة إلى صدارة الاهتمام العالمي ، بعد سنوات من التهميش المتعمد. انتقلت القضية من هوامش السياسة الدولية إلى قلب النقاش في الجامعات والبرلمانات والشوارع الغربية. تمكنت المقاومة من تحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر ، وكشفت ثغرات أمنية واستخباراتية هائلة في المنظومة الإسرائيلية. رغم الدمار الهائل والخسائر البشرية المروعة، استمرت المقاومة في القتال لأكثر من عامين، مما يمثل أطول حرب في التاريخ الإسرائيلي وأكثرها تكلفة.
التحولات العربية والإقليمية الجذرية
أجبر الطوفان الدول العربية التي كانت تتجه نحو التطبيع مع إسرائيل على إعادة حساباتها ومراجعة أولوياتها، حيث أصبحت القضية الفلسطينية مرة أخرى محكاً شرعياً لأي تحرك عربي تجاه إسرائيل. كشفت الأحداث ضعف المحور الإيراني وتراجعه، حيث فشلت طهران في حماية حلفائها بشكل فعال. تلقى حزب الله ضربات موجعة دون رد مناسب، وسقط النظام السوري الذي كان يمثل حلقة الوصل الأساسية في هذا المحور، مما أدى إلى تفكك ما يسمى بالهلال الشيعي.
بروز لاعبين جدد: الحوثيون ونهاية الهيمنة الإقليمية التقليدية
برز الحوثيون في اليمن كلاعب إقليمي رئيسي، حيث فتحوا جبهة دعم فعالة عبر الهجمات على السفن في البحر الأحمر والضربات الصاروخية المباشرة التي وصلت إلى العمق الإسرائيلي، مما شكل عامل ضغط مهم كسر احتكار إسرائيل للردع العسكري. هذا البروز مثل تحولاً استراتيجياً في موازين القوى الإقليمية، حيث لم تعد القوة التقليدية هي الفاعل الوحيد في المعادلة.
الانعكاسات الدولية: تحول في المواقف والتحالفات
شهد العالم موجة تضامن شعبية هائلة مع فلسطين، حيث سُجلت عشرات الآلاف من الفعاليات الاحتجاجية في أوروبا وحدها، شارك فيها ملايين الأشخاص من مختلف الجنسيات والخلفيات السياسية. هذه الحركة الشعبية العالمية شكلت ضغطاً حقيقياً على الحكومات الغربية. ظهر انقسام حاد في المواقف الأوروبية، حيث طالبت دول كثيرة بوقف بيع الأسلحة لإسرائيل ومحاسبتها على انتهاكات القانون الدولي. شهدت إسرائيل تراجعاً حاداً في مكانتها الدولية، حيث هبط ترتيبها في مؤشر المكانة الدولية بشكل كبير.
التأثيرات على إسرائيل: أزمة وجودية عميقة
اهتزاز البنية الأمنية والعسكرية
كشف الطوفان عن إخفاقات كارثية في الجهاز الاستخباراتي والعسكري الإسرائيلي. فشلت كل الخطط العسكرية التي أعلنت عنها إسرائيل في غزة، بما في ذلك خطط إغراق الأنفاق وعمليات الجنرالات وعربات جدعون التي انتهت بمقتل العشرات من الضباط والجنود دون تحقيق إنجازات تذكر.
أزمة سياسية واجتماعية داخلية غير مسبوقة
واجهت الحكومة اليمينية لنتنياهو انتقادات حادة واحتجاجات شعبية واسعة ومطالبات بالتحقيق في الإخفاقات الأمنية واستقالة الحكومة. تعمقت الانقسامات الداخلية ووصلت إلى مؤسسات الجيش والأجهزة الأمنية. واجهت إسرائيل عزلة دولية غير مسبوقة، حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق غالانت بتهم ارتكاب "جرائم حرب".
التداعيات الإقليمية: نحو شرق أوسط جديد
سقوط نظام الأسد في سوريا وتفكك المحور الإيراني
مثّل سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 هزة ارتدادية كبرى في المنطقة، حيث كان النظام يمثل حلقة وصل مهمة في المحور الإيراني. هذا السقوط غيّر المعادلات الإقليمية وأضعف بشكل كبير النفوذ الإيراني في المنطقة، مما فتح الباب لإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية بشكل جذري.
تصاعد احتمالات المواجهة الإقليمية الشاملة
مع استمرار التصعيد الإسرائيلي ضد إيران وحلفائها، وتصريحات نتنياهو عن نيته ضرب البرنامج النووي الإيراني بل والتفكير في إسقاط النظام الإيراني نفسه، أصبحت المنطقة على حافة مواجهة إقليمية شاملة قد تُعيد رسم الخرائط الجيوسياسية بشكل كامل.
المستقبل: سيناريوهات متوقعة وانعكاسات محتملة
استمرار المقاومة وتصعيدها
من المرجح أن تستمر المقاومة الفلسطينية في تطوير أساليبها وزيادة قدراتها، مستفيدة من الدعم الشعبي المتصاعد والشرعية الدولية المتزايدة لقضيتها. قد تشهد الفترة القادمة تصعيداً نوعياً في أساليب المواجهة.
تفكك الكيان الإسرائيلي من الداخل
تواجه إسرائيل أزمة وجودية حقيقية قد تؤدي إلى تفكك داخلي كبير، خاصة مع استمرار الاحتجاجات المطالبة باستقالة الحكومة والتحقيق في الإخفاقات، وتعمق الانقسامات المجتمعية بين التيارات السياسية المختلفة.
حرب إقليمية شاملة وتحولات جيوسياسية كبرى
مع تصاعد التهديدات الإسرائيلية لإيران واستمرار الهجمات على حلفائها، قد تشهد المنطقة حرباً إقليمية شاملة تشارك فيها قوى متعددة. هذه الحرب قد تؤدي إلى إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية للمنطقة بشكل كامل.
انهيار مشروع التسوية وميلاد مشروع تحرري جديد
من الواضح أن مشروع التسوية القائم على حل الدولتين أصبح في حالة غيبوبة، مما يفتح الباب أمام ميلاد مشروع تحرري جديد قائم على المقاومة والنضال بكافة أشكاله، مستفيداً من الزخم الشعبي العالمي والدعم الدولي المتصاعد.
خاتمة: شرق أوسط جديد واعادة صياغة قضية فلسطينية متجددة
مثّل طوفان الأقصى زلزالاً جيوسياسياً هز أركان النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، وكشف عن هشاشة المشروع الصهيوني وعجزه عن تحقيق الأمن والاستقرار حتى لنفسه. أعاد هذا الحدث القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية، وكسر احتكار إسرائيل للقوة والردع، وفتح الباب أمام تحولات إقليمية عميقة قد تُعيد رسم خريطة المنطقة بالكامل.
الشرق الأوسط الذي يظهر بعد طوفان الأقصى لن يكون هو نفسه قبل هذا التاريخ. المستقبل يحمل في طياته احتمالات كثيرة، لكن الثابت أن القضية الفلسطينية قد عادت إلى قلب المعادلة الإقليمية، وأن شعب فلسطين قد أثبت مرة أخرى أنه صاحب الأرض والحق والقضية، وقادر على أن يفرض وجوده وحقوقه على اجندة العالم كله.
هذا التقرير يعتمد على أحدث التحليلات والتقارير المتاحة حتى أغسطس 2025، ويستند إلى تقييمات مراكز الفكر الدولية وتحليلات السياسيين والتقارير الإعلامية الموثوقة.

القائمة المشتركة: عن "تسوية" غير ممكنة

القضية الفلسطينية: محك الضمير العالمي واختبار شرعية النظام الدولي

الحكّام العرب في مواجهة شعوب العالم

تعزيز التمثيل النسائي في مجالس الإدارة الفلسطينية

عزام… فارس يترجل

الدستور والمجلس الوطني: بين الشرعية الإجرائية والشمولية السياسية

ترامب ومعاداة الفلسطينية اصل السامية
