حروب العشرية الثالثة (30)
مقالات

حروب العشرية الثالثة (30)

أسوأ ما في تعددية المصادر، وسرعة نقل وتسويق الأخبار، ناهيك عن تدفقها الفيضاني على مدار الساعة أن قدرة الإنسان على التركيز، ومدة التركيز نفسها، تعانيان من استنزاف دائم. لذا، سيتذكر القليل من الناس بعد مرور أسبوعين على زيارة ترامب للإبراهيميين، التحليلات والرهانات التي سبقتها، ورافقتها، وأعقبتها. ولا بأس من التذكير بأن مضيفيه أنفسهم، فبركوا وسوّقوا القسط الأكبر منها، إضافة إلى ما جادت به قرائح الحمقى المفيدين. ومن الواضح، الآن، أن الواقع أثبت بطلانها.

يتجلى البطلان في غزة بطريقة مأساوية أكثر من أي مكان آخر. وإذا كان من المفيد الاستعانة بالواقع الميداني، الملتهب على الأرض، للتدليل على بطلان التحليلات والرهانات المعنية، فثمة فائدة أكبر في تشخيصها كمحاولة للتضليل، استناداً إلى فرضية عدم التباين بين ترامب ومضيفيه في الموقف من الحرب، وعدم التباين بينه وبين نتنياهو. بمعنى آخر، يتموضع كل المذكورين في كتلة متعددة الأغراض قيد التشكيل، وسيلتها الحرب، وهدفها هندسة نظام جديد للأمن الإقليمي، على أنقاض النظام الذي هندسه كسينجر واعتمده الأميركيون بعد معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية.

وبناء عليه، وبدلاً من اختزال حرب الإبادة في ميل إسرائيل إلى العدوان. واختزال «الصمت» العربي في خوف الشعوب من حكامها، علاوة على تواطؤ هؤلاء. واختزال سلوك الأميركيين في دكان الخزف الشرق أوسطية في هبل الفيل الترامبي. فلنقل، إن ما تجلى على مدار عام ونصف العام، من أحداث وتحوّلات وحروب في فلسطين والشرق الأوسط (لم تتوقف بعد، ولن تتوقف في وقت قريب) يقبل التفسير بوصفه جزءاً من مشروع للأمن الإقليمي.

ولا أجد، في هذا الصدد، وصفاً أفضل لسمات وثيقة الصلة بالمشروع من كلام شخص يصف نفسه بمؤسس صندوق الابتكار الإسرائيلي، وصاحب كتاب قيد النشر بعنوان «لا يكفي أن نقول لن يحدث هذا مرّة أُخرى: لماذا العبرنة هي الطريق الوحيدة لإنقاذ الدياسبورا» في جريدة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية. كان من الممكن اختصار ما تقدّم من ألقاب وأوصاف، ولكن أهميتها ستتضح بعد قليل.

على أي حال، كتب هذا الشخص في اليوم التالي للزيارة: «هكذا تبدو القيادة عندما تكون مدفوعة بالغريزة وتحقيق النتائج والقوة الصريحة. ترامب هو أول رئيس أميركي.. يثبت أن السلام لا يجب أن يكون مهذباً، وأن التقدم مشروط بانتظار الإجماع. ثمة ضرورة للوضوح. والشجاعة. ونعم، لصانع صفقات.. التاريخ لن ينسى هذه الجولة.. ترامب لم يقم بزيارة الشرق الأوسط هذا الأسبوع وحسب، بل غيّره أيضاً».

لكل مفردة في هذه الثرثرة الثمينة دلالة خاصة. واللافت، هنا، الكلام عن سلام لا ينبغي أن يكون مُهذباً. وهذا يعني أن سلام مشروع الأمن الإقليمي الجديد، والمتخيّل، يمكن فرضه بالقوّة والإكراه، بصرف النظر عن رغبة أو إرادة الشعوب المعنية. وفي السياق نفسه، لا يحتاج التقدّم على طريق سلام كهذا تحقيق الإجماع. يعني الإجماع إضفاء شرعية سواء إقليمية أو دولية على أمر ما، وعدم الحاجة للإجماع تعني انتفاء الحاجة للشرعية.

يمكن الاستعانة بهذا الكلام للتدليل على تآكل مرجعيات كالقانون الدولي، ومؤسسات كالأمم المتحدة، وعلى سقوط عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية في الحضيض. وهذا ليس مهماً الآن. فالأولى بالانتباه تفسير ما وسم زيارة ترامب من إفراط في كلام الأرقام، والصفقات، والاقتصاد، بل وحتى الفقر الواضح، في كلام السياسة. وقد ألمحنا إلى معنى ودلالة غياب السياسة في معالجة الثلاثاء الماضي.

وعلينا التذكير، هنا، بأن سياسات الغزو والتوسع الكولونيالي، في أزمنة مضت، استعانت بمسوّغات أيديولوجية، وتقنّعت، كاذبة، بقيم تنطوي على نبل الرسالة. وقد استدعى هذا الأمر الكثير من الجهود في مختلف حقول المعرفة، بل وحرض على نشوء علوم جديدة.

أما سياسات الغزو والتوسع الكولونيالي الجديدة، القائمة على الإكراه، والتي لا تقيم وزناً للشرعية والمرجعيات، فلا تحتاج الكثير من اللغة والمفردات. ورغم أن ثورة الاتصالات في عالم اليوم، وهي بصرية في الغالب، تفسّر جانباً من الفقر اللغوي، إلا أن الصورة نفسها، المسكونة بالعمارة كدليل على التقدّم، وبريق الذهب كعنوان للثراء، تبدو مبتذلة تماماً مقارنة بما أنجبت حروب الماضي من أخيلة وتخييلات.

يقع الحكم على نجاح أو فشل محاولة لهندسة نظام للأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، بالقوة السافرة، وشرعيتها، خارج نطاق هذا المعالجة (وهي فاشلة، وكارثية، بالتأكيد). كل ما في الأمر، الآن، أن القوى المنخرطة في مشروع الهندسة تجد نفسها في حالة سباق محمومة مع الزمن.

السباق مع الزمن محموم في حالة نتنياهو بالمعنى الشخصي والضيق للكلمة. ومحموم بالنسبة للإسرائيليين عموماً لأن الحالة الوحيدة، التي سيتمكن النظام الإسرائيلي من تقديمها كجائزة ترضية للإسرائيليين، مع كل ما حدث، وبعد كل ما حدث، هي غزة قابلة للاستيطان وخالية من السكان. ومن غير الواضح حتى الآن إذا ما كان في وسعهم الإفلات من النتائج الكارثية الأخلاقية والسياسية التي تكبدوها في هذه الحرب، ومن غير الواضح حتى الآن إذا ما كان حسن الحظ، سيجود عليهم بحلفاء في البيت الأبيض من نوع ترامب، ناهيك عن حلفائهم الإبراهيميين.

لذا، وضمن أمور أُخرى، يبدو صاحب الثرثرة الذهبية في عجلة من أمره. فالسباق مع الزمن يتجلى كمشكلة، أيضاً. وما من حل في الأفق سوى الإكراه وشرعية القوّة العارية. يرى هؤلاء نافذة قد لا يجود الزمان بمثلها. ونراها مُغلقة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.