القضية الفلسطينية: المآلات في ظل التحوّلات
مقالات

القضية الفلسطينية: المآلات في ظل التحوّلات

"إذا ما تفوّه المتشائم كانت شكوى، وإذا ما كتب يكون اعترافًا".. يقول يوجين ثاكر في كتابه التشاؤم.

في حديث مع صديق مؤخّرًا، عن مجرى حرب الإبادة على غزة وانسداد أفق وقفها، وبالتالي أزمة سؤال فلسطين وقضيتها عمومًا، قال لي: "أصعب ما يواجه القضية أنّها طالت". لم يخطر ببالي من قبل ما الذي يعنيه أن تبقى قضية ما عالقة دون حلّ أو أفق لحلٍّ لكتلة من الزمن. ولمّا أصبح عُمر القضية الفلسطينية ما لا يقل عن ثمانية عقود، فإنّ استمرارها بات يأتي على حسابها أكثر مما هو في صالحها.

ما دعا حديثنا عن ذلك، كانا السياقين السياسيين الفلسطيني والإقليمي معًا، إذ لطالما اعتبرنا القضية الفلسطينية قضية الأمة لا قضية الفلسطينيين وحدهم. ففي الوقت الذي تستمر فيه إبادة غزة على مدار الساعة دون مساعٍ عربية - إقليمية ودولية جادّة لوقفها، يسير معها مسار تصفية ما تبقّى من البعد القومي للقضية جنبًا إلى جنب. ليس الصمت المجدول بالتخاذل عن الجاري في غزة ما يدلّنا على ذلك فقط، إنما ما بات يتّخذه النظام العربي - الرسمي في دول الطوق العربية من خطوات على أراضيها، في مساعٍ نحو موقفٍ منزوع السلاح، كما في دولة مثل لبنان تحت طائل خطاب "حصر السلاح بيد الدولة"، والذي يعني نزع سلاح حزب الله والمخيّمات الفلسطينية.

كما لا يمكن فهم ما جرى في الأردن بعد التهمة التي وجّهتها أجهزة أمن الدولة في نيسان/أبريل الماضي لخلية يرتبط أفرادها بتنظيم الإخوان في الأردن، إلا في هذا السياق، حيث اتُّهمت بالضلوع في نشاطات عسكرية غير مشروعة، ومن ثم حُظر التنظيم في الأردن، بصرف النظر عن مدى صحّة تفاصيل رواية الدولة الرسمية الأردنية، والتي لم توازيها رواية مقابلة لجماعة الإخوان تنفي الأولى. ما ترتّب عليه كان قطع دابر كل أشكال التظاهر والاحتجاج على سياسة إسرائيل وحرب إبادتها على غزة، التي كانت تشهدها الساحة الأردنية على مدار أشهر الحرب.

وإذا ما نظرنا إلى المشهد السوري ما بعد سقوط نظام الأسد، مع أخذنا بعين الاعتبار كم هي الدولة السورية - على ما تبقّى منها - مثقلة بعبء المرحلة التي خلّفتها السنوات الأخيرة تحت طائل خطاب "ضغط الواقع"، إلا أن هناك توجّهًا سوريًا جديدًا يشي كما لو أن فلسطين باتت من مخلفات المرحلة السابقة. فقد اتّخذت القيادة السورية الجديدة سلسلة من الإجراءات الأمنية، من بينها استدعاء واعتقال بعض قيادات الفصائل الفلسطينية المتواجدة على الأراضي السورية، منهم قياديون في حركة الجهاد الإسلامي، وأمين عام الجبهة الشعبية - القيادة العامة، في أواخر نيسان/أبريل الماضي ومطلع الشهر الحالي.

ومع أن الرواية الرسمية السورية، وكذلك الشعبية، قد استسهلت ترحيل إجراءاتها ضد بعض قيادات الفصائل الفلسطينية إلى الملف السوري الداخلي، وعلاقة هذه الفصائل بالنظام السابق، إلى حدّ تورط بعض قيادييها معه ضد ثورة السوريين على مدار السنوات الماضية، إلا أنها في حقيقتها، أقرب ما تكون إلى المسعى الإقليمي في وأد كل مظاهر العمل المناوئ للاحتلال، على اختلافها، منها إلى الملف السوري الداخلي. هذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ الرئيس السوري أحمد الشرع لم يستقبل من الفلسطينيين إلا رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، فيما لم يُبدِ ترحيبًا باستقبال فلسطينيين آخرين كانوا مع الثورة السورية، لأنّ موقفهم من الاحتلال الإسرائيلي يختلف عن رئيس السلطة الفلسطينية.

وما يجدر التذكير به، أن سؤال الاحتلال الإسرائيلي في سورية اليوم، ليس قوميًا ولا إسلاميًا، بقدر ما هو سؤال سوري ووطني بامتياز، في ظلّ الاحتلال التاريخي لهضبة الجولان أولًا، والتوغّل في جنوب سورية مؤخرًا في سياق سقوط نظام الأسد وقدوم القيادة الجديدة ثانيًا، إذ رفع الاحتلال الإسرائيلي من سقف شروطه على الدولة السورية في جنوبها، إلى حدّ أنه لا يريد وجودًا للدولة السورية في جنوبها إلا بشروطه.

ظلّت جغرافيا كل من سورية ولبنان جغرافيا مناهضة للاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948، بصرف النظر عن طبيعة نظام البلدين وسياستهما تجاه الاحتلال ودولته. وقولنا "الجغرافيا"، لأن هذه الأخيرة ظلّت متنفسًا للقضية الفلسطينية، وإن كانت مشروطة في سورية بأجندة نظام آل الأسد على مدار العقود الماضية، وقد باتت اليوم أقرب إلى تطويعها في سورية وكذلك لبنان لصالح إسرائيل، على حساب القضية الفلسطينية، ومن ثم النزوع نحو إلحاق البلدين بركب التطبيع، بعد أن صار أفق "السياسي" وسقفه متّصلًا بسؤال الإعمار – الإعمار في سورية ولبنان – وهذا ما يمكن أن يكون عليه الأفق "السياسي" لدى الفلسطينيين أنفسهم في الضفة الغربية وغزة في المرحلة القادمة: الإعمار، أي إعمار قطاع غزة، وإعادة عمال الضفة الغربية إلى سوق العمل داخل الخط الأخضر.

في كتابه تاريخ ويوتوبيا، يقول إيميل سيوران: "ليس للتاريخ معنىً، إنما للتاريخ مجرىً"، ووفق هذا التصوّر يمكن وضع حدث مثل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما ترتّب عليه – ليس من حرب إبادة لقطاع غزة فحسب، بل من مجرى سياسي إقليمي ودولي بات يتجاوز الحدث ذاته – في سياق تحوّل جذري نعاين مجراه أكثر مما نجيد تفسيره ومعناه، على مدار عام ونصف العام.

للقضية الفلسطينية سؤالها، الذي لا يمكن أن يُغطّيه غبار الأحداث والزمن، غير أن الأجوبة عليه بات أفقها أضيق مما كانت عليه. الأفق السياسي القومي - الإسلامي السياسي، والجغرافي، وكذلك العسكري، حيث بات واقع هذا الأخير في وقائعه يُحيلنا إلى ما برّر فيه الراحل جمال عبد الناصر هزيمته عام 1967 بتفوّق الاحتلال الإسرائيلي في سلاح جوّه على العرب والمنطقة. لم يكن جواب عبد الناصر على سؤال هزيمته في حينه مقبولًا منه رغم صحّته.

الذاكرة والوعي، وكلاهما مشتَبِكان ومتشابِكان ببعضهما، وعليهما سيخوض الشعب الفلسطيني صراعه في المرحلة القادمة، بعد أن صار الاحتلال الإسرائيلي – في ظلّ الصهيونية الدينية – أوضح في نسخته الفاشية، وفي ظلّ نظام إقليمي ودولي كذلك أقلّ حساسية، ليس من تنكّر الاحتلال لحقوق الشعب الفلسطيني السياسية، إنما من سؤال وجود الشعب الفلسطيني ذاته على أرضه، بعد الإبادة الجارية التي نشهد مجراها عليه وعلى قضيته.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.