عندما يبكي الرجال 
مقالات

عندما يبكي الرجال 

هزني مشهد عائلتي وهي تنزح  إلى مكان يأويهم حيث لا مكان آمنا، ومن كثرة نزوحهم فلم أستطع عدّ المرات التي نزحوا فيها ، ربما تجاوزت المرة الثالثة عشرة، وربما أكثر، خلال عامٍ ونصف العام من القهر والقصف والجوع والعطش.

في كل مرة تقلع فيها عائلتي من مكانها  كأنها تقلع من جذورها، كأنها تحمل قبورها على أكتافها وتسير إلى مصير مجهول لا تعلم نهايته، سوى أنه أبعد ما يكون عن الحياة.

هذا المشهد  لم يكن كما كل المرات بل  كان الأكثر قسوة. رأيت بعينيّ وجعًا لا يمكن وصفه ولا حتى تخيّله. 

 أكثر من ست ساعات وهم يمشون على الأقدام، تائهون، متعبون، وجائعون؛ بعد أكثر من ثمانين يومًا بلا طعام كافٍ، بلا دواء، بلا أمان، وسط صمت عالمي مريب، كأن البشرية قد قررت أن تغلق أعينها وتصمّ آذانها وتكمّم أفواهها، لتُبقي على نزيف المأساة في صمت.

أخي ماجد، الذي كان يدفع ابن أختي المريض على عربة، انهار فجأة وبكى. أجل، بكى كأن الأرض انشقت من تحت قدميه. وبكاء الرجال لا يُشبه أي بكاء آخر؛ فيه من الألم ما يعجز عنه الصراخ، وفيه من الانكسار ما لا يُرمم.

لكن الصرخة الأبلغ، كانت صرخة والدتي التي تحمل الجنسية الاردنية، وهي تصرخ في وجه العالم وكأنها تخاطب ضميرًا غائبًا: "حرام عليكم، وين الدول؟ وين العالم؟ احنا ما بدنا أكل، بدنا الحرب توقف"

هذه الكلمات لم تكن مجرد نداء أم، بل صرخة كل أم أنهكها النزوح، وكل رجل دفن رجولته تحت ركام العجز والقهر. لم تكن تطلب طعامًا، بل كانت تطلب حقًّا بسيطًا: أن تتوقف الحرب، أن تعود الحياة كما كانت

في زمن تكيل فيه الدول بمكيالين، وتُقاس فيه الأرواح حسب الجغرافيا والسياسة، تبقى قصتنا وقصص الآلاف مثلنا  شاهدة على صمتٍ مدوٍّ، على خذلانٍ عالميّ، وعلى صمودٍ لا نعرف كيف استمرّ، لكنه لا يزال، برغم كل شيء، ينبض

نحن لا نحتاج شفقة. نحتاج عدلًا. نحتاج إنسانية

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.