جذر المأزق الفلسطينيّ
مقالات

جذر المأزق الفلسطينيّ

تواجه الحركة السياسية الفلسطينية مأزقا عميقا تتجلّى مظاهره في غياب قيادة موحّدة وبرنامج وطني جامع ومؤسّسة وطنية فاعلة.

الأخطر أن هذه الأزمة تهدّد بتقويض ما تبقّى من مكتسبات وطنية، وفي مقدمها وحدانية تمثيل منظّمة التحرير الفلسطينية الشعب الفلسطيني. وانعكس المأزق بأشكالٍ لا تحصى، منها أن الاجتماعات العربية والإقليمية والدولية باتت تتكرّر، تبحث في القضية الفلسطينية وتقدّم مقترحات لـ"لمصلحة" الشعب الفلسطيني، بينما تغيّب منظمّة التحرير (الممثّل الشرعي الوحيد) من هذه اللقاءات، وهي المنظّمة التي نجحت، في لحظة تاريخية فارقة، في تحويل القضية الفلسطينية من مسألة إنسانية إلى قضية تحرّر وطني، وحوّلت الفلسطينيين من أفراد مشتّتين إلى فصائل وأحزاب ونقابات وأطر مجتمعية موحّدة، تحت مظلّة وطنية واحدة، تستند إلى ميثاق وطني وبرنامج وطني وقيادة مشتركة.

تراجع هذا كلّه مع تعمّق الانقسام السياسي والجغرافي والمؤسّسي، الذي بلغ ذروته بعد جريمة الإبادة الجماعية أخيراً، وكان يُفترض أن تُشكّل نقطةَ وحدةٍ وقاسما مشتركا أعظم، لكنّها (للأسفّ) فاقمت الانقسام بدل أن توحّد الصفوف، وهذا يظهر من خلال التحريض الإعلامي المتبادل، فبدلا من توجيه الجهود نحو الاحتلال، شهدنا خطابا إعلاميا هابطا، ومتبادلا بين الأطراف، حوّل الإخوة إلى أعداء، وبات كلّ طرف يأمل انهيار الآخر، غير مدرك أن هذا الانهيار يعني خسارة الجميع، وفي مقدّمتهم القضية الفلسطينية.

كما تبدّى في غياب القيادة الموحدة، إذ استمرّت القيادة الرسمية في تبنّي إستراتيجية التفاوض، وعندما وصلنا إلى الكارثة التي نعيشها، اعتمدت إستراتيجية "البقاء والانتظار"، مكتفيةً بالسقف الأمني والاقتصادي للسلطة في علاقتها مع دولة الاحتلال، رغم أن هذه الأخيرة أنهت العلاقة التعاقدية مع المنظّمة من طرف واحد، وانطلقت في مخطّط لتصفية القضية الفلسطينية في مختلف جوانبها ومكوّناتها، وخصوصاً قضية اللاجئين، أساس وجوهر القضية الفلسطينية، وعبر تبني خطّة حسم الصراع والإبادة والتطهير العرقي والاستيطان والضمّ والتهجير من دون إدراكٍ للحاجة إلى تبنّي مسار جديد، بعد أن أثبت مسار "أوسلو" فشله الذريع، وخطورة إعادة إنتاجه من جديد.

وقعت المقاومة في أزمة إستراتيجية، وتمثّل مأزقها الكبير في فقدان رؤية وطنية شاملة، والجمع بين السلطة والمقاومة المسلّحة، تحت الاحتلال، وعدم رؤية طبيعة وخصائص الصراع واختلال موازين القوى الفادح، والمبالغة في الأزمة الداخلية الإسرائيلية ومدى التغييرات الاقليمية والدولية وانعكاساتها على القضية الفلسطينية، ما أدّى إلى إقدامها على قفزة كبيرة لوقف حالة التدهور كانت غير محسوبة العواقب، وهذا ساهم في تفاقم الوضع الراهن لدرجة بتنا أمام خطر وجودي، ما يستدعي وقفة تقييم ومراجعة وطنية عميقة وشاملة، لاستخلاص الدروس والعبر، وأهمها الابتعاد عن الإمعان في الواقعية بعيدا من الحلم والخيال والطموح، ومن الإمعان في الخيال بعيدا من الواقع، ومن أجل بلورة رؤية واقعية طموحة تعترف بالواقع وتتعامل معه من أجل تغييره لا تكريسه، من دون رضوخ واستسلام له، ولا تهور وقفز مغامر عنه.

وهناك شلل منظّمة التحرير وتضخّم السلطة، إذ تراجع دور المنظّمة لصالح السلطة، حتى باتت مجرّد بند مالي في موازنة السلطة تُستدعى فقط عند الحاجة إلى تلبية طلبات القيادة السياسية، وليس خدمةً للمصلحة الوطنية، وتحوّلت من كيان وطني جامع ومُجسِّد للهُويَّة الوطنية الواحدة إلى أحد مظاهر الانقسام. فالمجلس المركزي يعاني من التفرّد والهيمنة والإقصاء، ولا يجتمع إلا كلّ عدّة سنوات، وحلّ بصورة غير شرعية محلّ المجلسين الوطني، والتشريعي الذي حلّ بمرسوم غير قانوني. وتكرّس التفرّد حين صدر مرسوم يخوّل رئيس المجلسَين الوطني والمركزي خلافة الرئيس في حال شغور منصب رئاسة السلطة، رغم أن السلطة كيان مستقلّ بقانون أساسي مختلف عن المنظّمة، التي يحكمها نظام أساسي أُقرّ عند تأسيسها. كما وسّع المجلس المركزي، كما ظهر في آخر اجتماع له، بصورة أضعفت أيّ آمال متبقّية في أن تكون المنظّمة مدخلاً وإطاراً لتجاوز المأزق، ما أضرّ بقدرته على القيام بعمله، ليضمّ أكثر من 200 عضو من الموالين من دون معايير واضحة، في ظلّ انسحاب فصائل أساسية ومقاطعة أخرى، وتجاهل دعوة فصائل اتّفق جماعياً على مشاركتها في إعلان القاهرة عام 2005.

هذا المأزق البنيوي العميق، الذي يعانيه النظام السياسي الفلسطيني بمختلف مكوّناته، هو العامل الأبرز في تفسير الأداء السيّئ، والأخطاء الفادحة التي وقعت فيها القيادة والفصائل، والتي ظهرت نتائجها الكارثية بعد جريمة الإبادة الجماعية، التي بدأت بذريعة "طوفان الأقصى"، رغم الجدل حول توقيت العملية وجدواها، إلا أن استمرار الإبادة منذ نحو ستة آلاف يوم، من دون سياسة فلسطينية فاعلة، وأداء فلسطيني قادر على وقفها، وبلا أفق سياسي أو وطني جامع، يعكس غياب قيادة موحّدة، ومشروع وطني حقيقي تتقاطع حوله القوى والمؤسّسات والأفراد.

تتطلب معالجة هذا المأزق تغييرا بنيويا شاملا، على أساس رؤية وإستراتيجيات جديدة وقيادة وطنية واحدة، واللجوء إلى التوافق الوطني إلى حين الاحتكام إلى الشعب عبر الانتخابات بأسرع وقت ممكن، لكن التغيير المنشود لن يتحقّق بسرعة ودفعة واحدة، وبحاجة إلى وقت، وتضافر عوامل ذاتية وموضوعية. لذا لا بدّ من اعتماد منهج التدرّج والعمل بـ"بالمقصقص" والممكن، حتى يُعاد بناء الحركة الوطنية بمختلف تياراتها الوطنية والإسلامية والقومية واليسارية، فيتشكّل تيّار وطني جامع قادر على إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني وإعادة بناء مؤسّسات منظّمة التحرير، لتكون فاعلةً، وقولا وفعلا الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وتضمّ مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي في جميع أماكن وجود الشعب الفلسطيني. أمّا البحث في ما يمكن عمله على الفور، فالوقت من دم والتاريخ لا يرحم، فهو ما يستدعي مقالا آخر.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.