مفتاح الدار
مقالات

مفتاح الدار

وصلت إلى حد البكاء وأنا أتابع مقطعاً مصوراً صغيراً لرب أسرة عاد من جنوب القطاع إلى مدينة غزة، وكان يقف امام باب شقته الصغيرة الواقعة في بناية سكنية، ويده ترتعد وهي ممسكة بمفتاح الشقة، فيما يبكي بكاء مريراً وهو لا يصدق بالطبع أنه قد عاد وبعد غياب أكثر من سنة، ولا يزال باب بيته قائماً وانه يمكنه ان يدير المفتاح في مكانه لكي ينفتح الباب ويصبح داخل مملكته الصغيرة التي افتقدها طويلاً، والتي تكلفَ سنوات شقاء طويلة حتى أقامها.

كانت مفاتيح داره تشبه مفاتيح داري تماماً، والغريب انك تكتشف ان معظم بيوت غزة الحديثة متشابهة، وقد سئل هذا السؤال مراراً من زائرين وسائحين، وهو لماذا على الرغم من قدم مدينة غزة تاريخياً إلا أن بيوتها تبدو حديثة ولا يوجد بيوت مثلاً ذات طرز معمارية قديمة، والإجابة هي أن غزة تعرضت لعدة حروب متتالية خلال القرنين الأخيرين، ما أدى لعدم وجود بيوت اثرية كثيرة، بل ان معظم الآثار التاريخية قد دمرت وخاصة في هذه المقتلة، وحين يتم إعادة إعمار المناطق التي دُمرت فيتم تصميمها على نسق واحد غالباً، ولأن الفترة الزمنية التي يتم فيها البناء تكاد تكون الفترة نفسها لذلك تكون التصميمات متشابهة من حيث الديكور الداخلي وشكل النوافذ والشرفات مثلاً، وحتى الأثاث وكذلك شكل ونوع الأبواب الأساسية مثل الباب الرئيس الذي يفضي إلى الخارج، وحيث لاحظت فعلاً ان معظم البيوت لها نوع الأبواب نفسه وأشكال مفاتيحها متشابهة، ما يجعلك تهتف بسرعة حين ترى مقطع الفيديو، لذلك الأب الذي يدلف إلى داخل شقته الصغيرة ودموعه تسبقه: والله نفس مفتاح دارنا.

مفتاح الدار ظل في حقيبتي يوم أن نزحنا من غزة في الجمعة الأولى من الحرب، وحافظت عليه وكنت أتأمله وأتساءل بيني وبين نفسي متى سنعود او هل سنعود؟ وقد انتزع القصف الباب كله وألقاه جانباً فوق الركام، حتى أنني كنت اضحك وأبكي في الوقت نفسه وأقول لمن حولي: هناك من حمل الباب بكلتي يديه ووضعه جانباً فوق الركام وهو يكتب كلمة النهاية، أو انه كان يكتب كلمة البداية، فقد حدث ذلك في الأيام الأولى من الحرب، وكنت أتوقع أننا سننتقل من مكان لآخر داخل مدينة غزة ثم سنعود، ولكن الحال قد طال ونزحنا واستقر بنا الحال في رفح وبتُّ أغني ودمعي يسابقني: سرقوا الصندوق يا محمد... لكن مفتاحه معي.......

تأملت ذلك الأب الذي يبكي وهو يتأمل بيته، وكان يشبه معظم البيوت حسنة الحظ والتي مازالت تقف على قدميها- أقصد أساساتها- فيما طال القصف بعض الجدران وتهتك سقف غرفة او غرفة معيشة، وسقط جدار يفصل البيت عن بيت الجيران، ولذلك فقد لجأ الجميع لذات الحيلة للحفاظ على بعض الخصوصية، وفي ظل عدم توفر مواد البناء وكذلك عدم توفر المال، فقاموا بإحاطة الجدار المنهار بساتر قماشي متين ربما كان من المشمع او الخيش، فالمهم انه لا يسمح بنفاذ الرؤية، وهو ما يطلق عليه في غزة اسم «شادر» وان كان هذا الشادر يحجز البصر فهو لا يحجز الصوت، ولذلك فقد اصبح بيتك في هذه الحالة وبيت الجيران عبارة عن بيت واحد لا ينقصه سوى أن تزيل هذا الشادر.

مفتاح الدار اصبح معي هنا، وحيث غادرت غزة وأصبحت في مدينة بعيدة غريبة لم أعرف أنها كذلك إلا بخروجي القسري من غزتي، وكنت أزورها عابرة طريق أو كزائرة، ولكن هذه المرة كل شيء يختلف، فمرارة الاغتراب تحرق جوفي ومفتاح الدار يلتمع في عتمة الليل، وحيث يغيب في عتمة احد الأدراج بالقرب من سريري، وكلما رأيته تنهدت وحبست دموعي ولكني بتُّ أخشى أن أمسك به، وكأني لا زلت أداعب أملاً بأنني سوف امسكه لكي أُديره في مقبض باب الدار لكي ادلف إلى الداخل حيث الأمان والاستقرار والراحة، وحيث كنت اشعر بكل المشاعر الدافئة البسيطة والتي سرقتها مني هذه الحرب، والتي حولتني إلى كائن بلا عنوان، فقد كان عنواني يبدأ بعبارة «مفتاح الدار».

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.