نـحـن والآخـر
مقالات

نـحـن والآخـر

تجاوُز المخاطر التي تواجه الشعب الفلسطيني عملية مركبة وصعبة، تحتاج الى معرفة - الذات والآخر وتحولاتهما وتجديد الفكر والتفكير السياسي، وترتبط أوثق ارتباط بإعادة البناء الداخلي في مختلف المجالات.
نقطة الضعف الأبرز في هذه العناصر ضعف المستوى السياسي المدقع في معرفة الآخر – المستعمر الإسرائيلي- وتثبيته على الصورة النمطية القديمة رغم تحولات بنيته، ورغم ثورة المعلومات والاتصالات التي أتاحت فرصاً هائلة وحديثة لتطور المعارف.
بدون معرفة المشروع الصهيوني وطبيعة دولته وتناقضاته وتحولاته يصعب الحديث عن نجاحات فلسطينية تقود الى حل الصراع حلاً عادلاً. يذكر أنه مع بدايات الثورة الفلسطينية طُرحت المسألة اليهودية على بساط البحث، وجرى الحديث عن تصورات لحلها من وجهة نظر فلسطينية وعربية. الاهتمام بالمسألة اليهودية عبر عن تطور في الفكر السياسي، ولكن مع مرور الوقت انطفأ ذلك الاهتمام. واقتصر الأمر على رفض تعريف الفكر الصهيوني للمسألة اليهودية، وانتظار تحقق نبوءات حول زوال دولة إسرائيل وما يعنيه ذلك من بقاء الرواية والفكر الصهيوني حول هذه المسألة، وتحديداً حول سلخ اليهود الفلسطينيين والعرب عن شعوبهم وثقافتهم ولغتهم وإدماجهم بمشروع استعماري بلا منازع، بلا آراء مشتبكة في ساحة الصراع، سوى آراء مفكرين ومؤرخين إسرائيليين ويهود، حاولوا تفكيك الرواية من خلال رؤى أخرى.
إن قيام إسرائيل يساوي في الفكر الصهيوني: استعادة وطن قديم. والأصل الناظم للاستعادة هو العهد القديم المسمى – التناخ او التوراة – الذي تحول الى «صك ملكية» لفلسطين الانتدابية من النهر الى البحر بعد أن ُنقل من رف الكتب اللاهوتية الى رف الكتب التاريخية ورُقّي الى مرتبة تاريخ لا يجوز الاستئناف عليه، وأضحى كتاباً تربوياً يُدرس في حصص تعليم مستقلة، يقرأه الصغار ليعرفوا من هم آباؤهم ولينطلقوا الى حروب الاستيطان، كما يقول شلومو ساند في كتاب «اختراع الشعب اليهودي». الاختراع استُخدم ولا يزال في تسويغ وتشريع إقصاء الشعب الفلسطيني وممارسة التطهير العرقي ضده، ومنعه من ممارسة حقه في تقرير المصير، وحول عملية جلب المستعمرين الى فلسطين الى حق عودة «الشعب المنفي» منذ 2000 عام الى أرض «الأجداد»!. واعتباره الشعب الوحيد الذي يملك حق تقرير المصير في هذه البلاد، مع ان اعتماد إسرائيل إسطورة «صك الملكية» للأرض الفلسطينية لا يوجد ما يسنده في الهستوريوغرافيات الجديدة ومكتشفات علوم الآثار والأبحاث التاريخية القديمة، والنظريات العصرية في مسألتي الأمة والقومية. ورغم ذلك ما زال الصك يحتل مركز الرواية الإسرائيلية وساري المفعول ورائجاً داخل الكونغرس الأميركي وإدارات أميركية وبعض دول أوروبية، ومن قبل ذلك اعتمد في وعد بلفور وفي صك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم المتحدة مع أنه متناقض بالمطلق مع ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي. ليس هذا وحسب بل إن أي معارضة لمخرجات هذا المشروع كالاحتلال والاستيطان ونهب الموارد والتطهير العرقي وجرائم حرب وقمع وإرهاب يدرج في باب معاداة السامية. وكما يقول إدوارد سعيد «لا يمكنك ملامسة أي شيء له علاقة بإسرائيل، لم أستطع قول كلمة حتى منتصف التسعينات».
تأسس على أسطورة «صك الملكية» 10 خرافات أصبحت من ركائز الفكر الصهيوني شرحها المفكر والمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه في كتابه بعنوان « 10 خرافات عن إسرائيل». وهي: فلسطين كانت أرضاً بلا شعب، واليهود كانوا شعباً بلا أرض، الصهيونية هي اليهودية والتوراة هي ميثاق إسرائيل، الصهيونية حركة تحرر الشعب اليهودي وليس لها صلة بالاستعمار، الفلسطينيون تركوا أرضهم طوعاً وتم تجاهل التطهير العرقي والمجازر والقرى المدمرة. حرب حزيران كانت حرباً مفروضة على إسرائيل، إسرائيل الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وتجاهل إخضاعها للفلسطينيين لحكم عسكري وحرمانهم من حقوقهم الإنسانية والمدنية والسياسية. اتفاق أوسلو كان مجرد حيلة إسرائيلية لتعميق الاحتلال، وأكاذيب حول قطاع غزة تجعله محاصراً بشكل دائم، وصراعاً غير قابل للحل. يضاف الى ذلك أكذوبة لا يوجد شريك فلسطيني.
وكان يشعياهو ليبوفيتش المفكر والمؤرخ الإسرائيلي قد كشف تناقضات نشأة الدولة الإسرائيلية بالقول: إسرائيل تنتمي الى ذلك النوع من الدول السابقة للشعب، فقد بدأت بإقامة جهاز سلطوي بمبادرة وحدة بشرية ثم انبري الجهاز في قولبة أفرادها كشعب ينتج قومية، خلافاً لوجود شعب سابق للدولة ويبدأ من وحدة بشرية ذات مضمون قومي تقيم لذاتها إطاراً كيانياً يتحول الى دولة. ويضيف، ليبوفيتش إن شعبا أنشئ من طرف دولة هو عملياً شعب دون مضمون وهو قائم فقط بسبب الإطار الخاضع له، ذلك الإطار الذي وضع الأساس الفكري لنمو فاشية. ويضيف: إن أمة مقَولبة من قبل جهاز سلطوي لن يستديم وجودها إلا على القبضة المغلفة بقفاز من فولاذ أميركي. والاحتلال يفاقم تناقض إسرائيل مع الديمقراطية، فدولة يهودية وديمقراطية تتنافر مع الاحتلال، ودولة يهودية واحتلال يتنافر مع الديمقراطية، واحتلال وديمقراطية يتنافران مع دولة يهودية، كل ضلعين من أضلاع المثلث يتنافر مع الضلع الثالث، كما يقول ليبوفيتش. وحل التناقض نسبيا بمعنى تبريده لا يكون إلا بالتراجع عن ضلع ثالث، كالتراجع عن الاحتلال، او عن اليهودية، او عن الديمقراطية، وكل تراجع سيخلخل البناء المشوّه أصلاً، فالتراجع عن دولة يهودية يبقي على ضلعي الاحتلال والديمقراطية متنافرَين ولا يلتقيان. والتراجع عن الديمقراطية سيعصف بمقولة «البلد الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط» و»بانتماء إسرائيل للعالم الحر». وفي حالة التراجع عن الاحتلال، فإن يهودية الدولة ستعصف بالديمقراطية عبر منظومة التمييز بين يهود وغير اليهود وبين يهود ويهود. العنصرية كما يقول شلومو ساند موجودة في كل مكان في إسرائيل، وهي بنيوية بروح القوانين وتدرّس في جهاز التربية والتعليم ومنتشرة في وسائل الإعلام وتطبق على الفلسطينيين بشكل سافر، وحتى اليهود العرب تعرضوا للتمييز وقد جرى تركيزهم في الأماكن النائية للدولة وحصلوا على القليل جداً من الامتيازات. والمفارقة إن العنصريين الإسرائيليين لا يعرفون ولا يعترفون بعنصريتهم باستثناءات قليلة جداً.
عنصر الضعف الأكبر في التجربة الإسرائيلية هو إعادة تقديم نموذج اسبرطة اليونانية ومجاراتها في امتلاك القوة الهائلة باعتبارها العنصر الحاسم، الذي يتمحور المجتمع حولها، ويرتبط ببعد ديني ونقاء عرقي - عنصري- منعزل عن جميع الشعوب المحيطة، وتتبنى ثقافة القوة والعداء القادرة على إخضاع الآخرين أو ردعهم. إن استخدام القوة والحروب واستمرار الانغلاق وعدم الاختلاط مع شعوب المنطقة والتصالح معها لن يستمر الى ما لا نهاية، لن تستطيع إسرائيل الاستمرار في العسكرة وإعادة إنتاج القوة والتفوق إلى ما لا نهاية. كان مصير إسبرطة الانحدار، وصعدت أثينا بالاستناد الى ثقافتها التي فتحت الجسور على الشعوب. إسرائيل لم تتراجع وكأنها قوية وصاعدة الى الأبد. بقيت منغلقة على شعوب المنطقة كما إسبرطة، وواصلت حروبها الكبيرة والصغيرة بهدف إخضاع الشعوب وبخاصة الشعب الفلسطيني. للحديث بقية

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.