"حادثة" المقام تكشف عن أشياء "أفظع"!
رئيس التحرير

"حادثة" المقام تكشف عن أشياء "أفظع"!

رئيس التحرير: بعد أن شجب الجميعُ ما حدث من تدنيس لمقام النبي موسى، وقبل أن تبرد مواقع التواصل الاجتماعي والشارع الفلسطيني لانشغاله بقضايا أخرى، كان لا بد من استخلاص العبر، والانتباه جيداً للقضايا التي "نبشها" هذا الحادث، والتي هي أفظع مما جرى من تدنيس "عابر"!

لن تعالج هذه السطور فظاعة ما جرى داخل المقام، فمن الطبيعي أن تعمل أجهزة إنفاذ القانون في فلسطين على عرض من ارتكبوا هذا الجرم أمام القضاء، ليتم محاسبتهم وفق القانون، حتى لا تتكرر هذه الفضائح!

سنبحث هنا عمّا وراء الحدث، والملفات التي كشفها، والتي لا تعد قضايا عابرة كقضية التدنيس، بل هي أخطر بكثير مما جرى.

أولاً وقبل كل شيء، كيف لموقع أثري وديني مثل المقام أن يُهمل وَيُترك ليد شركة خاصة! هل تستطيع الشركة حماية المقام من غول الاستيطان؟ هل عملت الشركة على استقطاب الزوار وتثبيت عروبة وفلسطينية المقام؟ وقبل ذلك هل عملت وزارة الأوقاف -التي يتبع لسلطتها هذا المقام- على حمايته؟

لقد أُهمل المقام وتُرك، ودليل ذلك "تضمينه لشركة خاصة"، وكأن الأوقاف والحكومة قررت أن تتركه، وحتى لا تظهر أمام الناس بمظهر المتخلي عن المقام، قامت بتوقيع اتفاقية مع الـ UNDP لإعادة تشغيل المكان من خلال شركة هاي راكس للسياحة والسفر.

تخيلوا أن تقوم الحكومة مثلاً بخصخصة الحرم الإبراهيمي أو الحرم القدسي؟ تخيلوا مثلاً أن تقوم الأوقاف بخصخصة مسجد جمال عبد الناصر في البيرة وتعطيه لشركة تقوم بإدارة المكان وتحولها من مكان مقدس لدُكان ربحي!

فتحت "حفلة" المقام ملفاً خطيراً، ولا ندري كم من الأماكن المقدسة التي تحت سلطة الأوقاف أو وزارة السياحة آل بها الحال إلى مثل ما حدث في المقام، وهنا يتوجب على الحكومة تشكيل لجنة تحقيق ليس في أحداث المقام فحسب، بل في ملف الأماكن المقدسة والتاريخية في فلسطين، وتبيان الكوارث التي لحقت بها من إهمال وتهميش!

ثانياً: كشفت حادثة المقام عن ماكينات متخصصة في صناعة الإشاعة وبثها في المجتمع الفلسطيني، وهي ماكينات غير بريئة، وحجمها يدلل على أن جهات تقف خلفها وليس أفراداً، وفي هذا الملف كانت الإشاعات أخطر، حتى أنها بدأت تعزف على وتر الديانات، وقد لاقت آذاناً مصغية، ولولا تماسك الشعب الفلسطيني بمسيحييه ومسلميه لحدث ما لا يُحمد عقباه!

وصل الحد بالإشاعات إلى مرحلة التطاول على أعراض الناس دون تحقق ودون بيّنة، فهوجمت عائلات مقدسية جُبل دمها مع تراب القدس، وشُهّر بها وهي لا علاقة لها بما جرى! فهل ما حدث من إشاعات وتطاول على الأعراض يُمكن أن يكون تصرفاً فردياً أم عملاً منظماً استهدف ضرب النسيج الفلسطيني؟

يستلزم هذا الأمر أن يُفعل قانون الجرائم الإلكترونية بشكل دائم، وأن لا يظل حبيس الأدراج ليُفعل في وجه المعارضة بمختلف تفصيلاتها، أو حسب المزاج! يجب محاسبة من بثوا الإشاعة في نفس المحكمة التي يُحاسب فيها من دنسوا المقام، فالمجموعة الأولى دنست عقل الشارع، والثانية دنست مكاناً مقدساً!

ثالثاً: على الإعلام الحكومي أن يكون أكثر تفاعلاً خصوصاً مع القضايا التي لا تحتمل التأخير أو التأجيل، حتى لا ليُترك المجال أمام أطنان من الشائعات لتبث عبر وسائل التواصل وتسمم العقول والأجواء والأفكار!

على الإعلام الحكومي أن يكون جاهزاً لأي طارئ، وأن يُعطي المعلومة حال حدوثها وأن يعالج الإشاعات حال بثها، لتموت الإشاعات في مهدها قبل أن تصير بعبعاً لا يُمكن السيطرة عليه، مع العلم أن أذرع الإعلام الحكومي قوية، ومن بينها التلفزيون والراديو والمواقع الرسمية ومواقع التواصل، إذن فهي تستطيع إعمال هذه الأذرع في حالات الضرورة المجتمعية لإيصال الرسائل الصحيحة في الوقت الصحيح.

رابعاً، كان العزف على وتر العنصرية الطائفية من أكثر الأمور خطورة في حادثة المقام، وقد وصلت الأمور بالبعض لمهاجمة مكون هام من النسيج الفلسطيني، وهم الأخوة المسيحيين، واتهموا زوراً أخوتنا أنهم أقاموا حفلاً لميلاد المسيح داخل المقام!

لم يكن الحفل احتفالاً بميلاد المسيح الذي علّم البشرية معنى الإنسانية مع أخيه النبي محمد وباقي الأنبياء، ولا يُمكن أصلاً لأخوتنا المسيحيين أن يُدنسوا مكاناً مقدساً لأي دين، فما بالكم بالدين الإسلامي الذي كان له تاريخ محبة طويل مع المسيحية في فلسطين!

بذرة العنصرية التي كُشف عنها في حادثة المقام تستلزم من الكل الفلسطيني نبذ التعصب والفرقة، وعلى المناهج الفلسطينية أن تركز على هذا الجانب، حتى لا ينبت في بلدنا جيل لا يُفرق بين العدو وبين ابن الديانة المخالفة له!

أخيراً، وعلى هامش هذه النقاط المهمة، على الحكومة أن تخرج بنتائج جدية للجنة التحقيق التي شُكلت في حادثة المقام، وعليها محاكمة كل المتورطين في "المهزلة" التي وقعت، وعليها أيضاً أن تشكل لجاناً تبحث كل نقطة أثرناها سباقاً، لنخرج بدروس وعبر، حتى لا تتكرر الفظائع التي عشناها خلال اليومين الماضيين.

وزيادة على كل ما حدث، هل يُمكن أن تمر هذه الحادثة لو كان للشعب الفلسطيني مجلساً تشريعياً ونواباً يمثلون المجتمع؟ هل كانت الحكومة لتقصّر في اعتنائها بأماكن أثرية ومقدسة لو كانت تخاف مساءلة من نائب أو قائمة؟ و"البقية عندكم".