إعادة تشكيل القوة الإسرائيلية: الجيش في قلب صراع داخلي داخل الليكود
مقالات

إعادة تشكيل القوة الإسرائيلية: الجيش في قلب صراع داخلي داخل الليكود

تعيش الساحة السياسية الإسرائيلية واحدة من أكثر لحظات الانكشاف منذ سنوات، مع تحوّل الخلاف بين وزير الأمن إسرائيل كاتس ورئيس الأركان إيال زامير إلى مواجهة مفتوحة تهدد تماسك الحكومة وتكشف تصدعات عميقة داخل الليكود نفسه. في يوم واحد فقط، انتقل الصراع من مناوشات حول التعيينات العسكرية إلى الحديث عن تغيير حكومي كامل قد يُطيح بكاتس من وزارة الأمن، ويعيد توزيع مراكز القوة حول رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، في مشهد يعكس أن إسرائيل تعيش مرحلة إعادة فرز السلطة بين المؤسسة العسكرية والنظام السياسي بعد حرب طويلة واتساع الإخفاقات التي لا يريد أحد تحمّل مسؤوليتها.

صعود زامير إلى صدارة المواجهة لم يكن مجرد صدفة. فهو  رُسم في الإعلام الإسرائيلي كضابط مستقل يحاول إعادة بناء الجيش بعد انهيارات 7 أكتوبر، ويقود تحقيقات داخلية انتهت بعزل ضباط كبار وتوجيه ملاحظات قيادية لمسؤولين وضباط كانوا يُعدّون من غير القابلين للمساس داخل المؤسسة العسكرية. خلال الأيام الماضية، بدا واضحًا أن زامير لم يعد مستعداً للتعايش مع محاولات فرض الإملاءات السياسية عليه. البيان الذي أصدره المتحدث باسم الجيش، والذي تشير التقديرات إلى أن زامير صاغه بنفسه، حمل لهجة غير مسبوقة في نقد وزير الأمن، واتهمه بشكل صريح بتسييس المؤسسة العسكرية واستخدام ملف التحقيقات الداخلية كأداة انتخابية داخل الليكود. هذا البيان مثّل لحظة كسر للتقاليد وخرقاً لخط أحمر ظل محفوظاً لعقود: الجيش لا يهاجم وزير الأمن علناً، إلا أن زامير اختار المواجهة المباشرة، مدفوعًا بشعور داخلي بأن استقلالية الجيش مهددة.

في المقابل، يظهر إسرائيل كاتس، على خلفية أجواء يمينية شديدة الحساسية تجاه الجيش، كسياسي يخوض معركة بقاء. كاتس بات ينظر إلى الصراع مع زامير كفرصة لتثبيت موقعه داخل الليكود أمام منافسين يصعدون بثبات مثل أمير أوحانا، وطالي غوتليب، وموشيه سعادة، وبوءاز بيسموت. ومع اقتراب الانتخابات التمهيدية للحزب، يصبح كل قرار وكل تصريح جزءاً من معركة داخلية تهدف إلى إظهار القوة وتسجيل موقف أمام جمهور يميني يرى في الجيش جهازاً  يحتاج إلى الضبط وإعادة الترويض. لذلك، لجأ كاتس إلى تجميد التعيينات العسكرية، وإعادة فتح تحقيقات سبق وأن أُغلقت، وفرض مراجعات جديدة تتعلق بخطة “جدار أريحا”، في خطوة اعتبرها الجيش محاولة واضحة لابتزاز المؤسسة العسكرية ومصادرة صلاحيات رئيس الأركان.

التطور الأخطر كان دخول نتنياهو على الخط، ليس كوسيط بين كاتس وزاميز، بل كطرف ثالث يسعى إلى استعادة السيطرة على وزارة الأمن بعد أن تحولت الوزارة إلى بؤرة توتر تهدد مكانته. فخلال اجتماعات مغلقة، وجّه نتنياهو انتقادات حادة للطرفين، لكنه كان أكثر صرامة مع زامير، الذي اتهمه مقربون من رئيس الحكومة بأنه يتصرف “باستقلالية مفرطة” وينفذ ما وعد به “بالعكس”. ومع تضارب الروايات حول المداولات داخل مكتب رئيس الحكومة، تسربت معلومات عن نية نتنياهو إجراء تغيير وزاري يشمل إقالة كاتس وتعيين جدعون ساعر وزيراً للأمن، ونقل إيلي كوهين إلى الخارجية، وإعادة كاتس إلى وزارة الطاقة. ورغم النفي السريع من مكتب نتنياهو، فإن مجرد طرح هذا السيناريو يكشف عمق الأزمة ومدى اشتعال الصراع داخل الليكود، حيث بات كل طرف يشك في ولاء الآخر.

في هذا السياق، جاءت تصريحات غادي إيزنكوت لتضيف طبقة أخرى من التعقيد. إيزنكوت اتهم نتنياهو ورجاله بالرغبة في وجود رئيس أركان ضعيف ومروّض، تمامًا كما يريدون حركة حماس، واتهم كاتس بالانشغال بـ“التفاهات” وبزعزعة الثقة بالجيش في لحظة تحتاج فيها إسرائيل إلى حدّ أدنى من الاستقرار لضبط الحدود الشمالية وتجاوز إخفاقات الجنوب. هذا الخطاب أعاد إشعال النقاش داخل المعارضة والائتلاف على حد سواء حول مستقبل المؤسسة العسكرية، ومدى قدرة الدولة على استخلاص الدروس من الحرب الأخيرة في ظل هذه المعارك الداخلية.

الأزمة الحالية تتجاوز زامير وكاتس. إنها مواجهة بين ثلاث قوى تحاول إعادة تشكيل مستقبل إسرائيل: الجيش الذي يسعى لاستعادة مهنيته واستقلاله، اليمين الحزبي الذي يرى في الجيش مؤسسة يجب إخضاعها لمشيئته السياسية، ونتنياهو الذي يحاول الحفاظ على سيطرته وسط انهيار تدريجي لنظام الولاءات الذي بنى حكمه عليه. وبينما يسعى زامير لتمرير إصلاحات عسكرية عميقة تستهدف إعادة بناء جاهزية الجيش، يصرّ كاتس على تعطيل كل خطوة يمكن أن تُحسب على رئيس الأركان كإنجاز. وقد بدأ الجيش يلمّح إلى أن استهداف زامير هو استهداف لبنية المؤسسة العسكرية نفسها، وأن استمرار الأزمة سيشلّ عملية استخلاص العبر ويجعل الجيش أكثر هشاشة أمام التحديات المقبلة.

بهذه الصورة، يتحول النزاع من خلاف وظيفي إلى معركة على شكل النظام السياسي بعد الحرب، وعلى من يملك سلطة القرار في اسرائيل. وإذا كان زامير قد تمكن من تسجيل نقاط في مواجهة وزير الأمن، فإن الأيام المقبلة قد تحمل تصعيداً أكبر، سواء من داخل الليكود أو من مكتب رئيس الحكومة. المشهد الإسرائيلي يتجه إلى مرحلة إعادة فرز واسعة، قد تدفع باتجاه تغيير وزاري، أو صدام مفتوح بين الجيش والحكومة، أو حتى إعادة ترتيب البيت الداخلي لليكود بأكمله. وفي كل الأحوال، ما يجري يكشف أن إسرائيل تعيش أزمة قيادة عميقة، وأن الجيش أصبح في قلب معركة سياسية قد تعيد رسم مستقبل السلطة لعقد كامل.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.