
"بين فيديو لا يُحمّل وحصار لا ينتهي: دروس في الصبر الفلسطيني"
( انت من يقرر ان كان ينطبق القول عليك أم لا)
نعيش اليوم في زمنٍ تتسارع فيه اللحظات حتى تكاد تفلت من بين أصابعنا، زمنٌ صار فيه الانتظار عبئًا غير مرغوب، والصبر عملة نادرة. نحضّر الطعام أو نطلبه في دقائق، ونشاهد الأخبار في ثوانٍ، وننتقل من فكرة إلى أخرى كما لو كانت شاشة تُمسح بإصبع. لكن خلف هذا الإيقاع المحموم، يختبئ سؤالٌ إنساني عميق: هل ما زلنا نملك القدرة على التحكم بهذا الايقاع السريع، أو على منح الأشياء وقتها لتنضج، وللمشاعر أن تمتد لتصنع فرقًا؟
في زمن الحداثة الرقمية لم يعد للانتظار مكان في تفاصيل حياتنا اليومية. يكفي أن نضغط على شاشة الهاتف حتى يصل المطلوب خلال دقائق، أو نمرر إصبعنا لنبدّل مقطع الفيديو قبل أن يكتمل. هذا النمط من العيش شكّل وعينا على مبدأ الإشباع الفوري، وأضعف قدرتنا على الصبر والانتظار، بينما هناك أمور كثيرة في الحياة لا تُنال إلا بالمكابدة وطول النفس. هنا أستحضر مقولة توفيق الحكيم الشهيرة: "ليست قوة المشاعر ما تصنع العظماء، بل مدتها"، كصرخة ضد سطوة اللحظة العاجلة وغياب الصبر، إذ إن العظمة لا تنبع من انفعالٍ خاطف، بل من مشاعر وجهود ممتدة عبر الزمن.
أثبتت عديد الدراسات فعلا عمق المشكلة، فمثلا من منا يكمل قراءة الشروط الطويلة التي يتطلبها تحميل برنامج معين على هاتفه. ففي تحليلٍ واسع لملايين المشاهدات، تبيّن أن المستخدمين يبدؤون بترك الفيديو إذا تأخر تحميله أكثر من ثوانٍ، وأنّ احتمالية الانسحاب تزداد مع كل ثانية إضافية. هذا السلوك يوضح كيف أعادت التقنية صياغة أعصابنا لتكره الانتظار، بل وتستعجله بشكل بيولوجي. المشكلة لا تقف عند لحظة المشاهدة، بل تمتد إلى وجود الهاتف نفسه بين أيدينا؛ فقد أثبتت تجارب مخبرية أنّ مجرد وجود الهاتف على الطاولة حتى وهو صامت يقلل من القدرة المعرفية والانتباه مقارنة بمن أبعده تماماً عن مجال البصر. أي أننا نعيش في بيئة مشبعة بالمشتتات، تسلبنا القدرة على "المدّة" الطويلة التي يتحدث عنها الحكيم.
ولعلّ أشهر التجارب التي تناولت قيمة الصبر هي "اختبار المارشميلّو"، حيث أُتيح للأطفال أن يختاروا بين قطعة حلوى فورية أو مكافأة أكبر لاحقاً إن هم انتظروا. لاحقاً ارتبط النجاح في هذا الاختبار بقدرة الأطفال على التحكم في النفس وتحقيق إنجازات أفضل في المستقبل. ورغم أن أبحاثاً أحدث أوضحت أن العوامل الاجتماعية والبيئية تؤثر كثيراً في النتائج، فإن جوهر الرسالة يظل قائماً: القدرة على تأجيل الإشباع مهارة حياتية حاسمة. في المقابل، ما تزرعه وسائل التواصل والفيديوهات السريعة فينا هو عكس ذلك تماماً؛ إذ تدرّبنا على الانتقال المستمر من محتوى إلى آخر، وهو ما يزيد الملل ويضعف الرضا ويجعل من الصعب احتمال المشروعات طويلة المدى أو الانخراط في التفكير العميق.
إن مقولة الحكيم تلخص إذن أزمة عصرنا: لسنا بحاجة إلى شرارة عاطفية عابرة بقدر ما نحن بحاجة إلى شعلة مستمرة من الصبر والانتباه. ولعل الحل يكمن في إعادة هندسة علاقتنا بالزمن والتقنية، فمن أبسط التدابير أن نُبعد الهاتف أثناء العمل أو الدراسة، وأن نوفر بيئات تقلّ فيها المشتتات، وأن نتعامل مع الإنجاز بوصفه مشروعاً ممتداً لا سلسلة انفعالات لحظية، كما يمكن أن نعيد الاعتبار لممارسات تعزز البطء الهادف، مثل التفرغ لقراءة عمل واحد أو تأمل لوحة فنية أو إنجاز مهمة معقدة بلا مقاطعة، فهذه ليست رفاهية، بل تدريب عملي على إطالة مدى الانتباه والصبر.
ن الحداثة ليست عدواً للصبر إلا إذا سمحنا لها أن تكون كذلك. يمكننا أن نستفيد من سرعة الوصول التي تتيحها التقنية، لكننا مطالبون في الوقت نفسه بأن نحمي القدرة على التأنّي، وأن نغذي "مدة" المشاعر والجهد، لأنها وحدها ما يصنع العظمة والإبداع. فالإبداع ليس وميضاً يختفي كما ظهر، بل هو نار هادئة تبقى مشتعلة ما دمنا نحسن الانتظار.
ولعلّ الفلسطيني اليوم أكثر من يدرك معنى ما قاله توفيق الحكيم: "ليست قوة المشاعر ما تصنع العظماء، بل مدتها". ففي ظل الاحتلال والحصار وضيق الموارد، لا يكون الصمود لحظة حماسة عابرة، بل مسيرة طويلة من الانتظار والعمل الهادئ والتشبث بالأمل. نحن نزرع ونحن نعلم أن الحصاد قد يتأخر، ونبني مشاريعنا ونحن ندرك أن العوائق قد تتكرر، ونحلم بدولة حرة ونحن نعرف أن الطريق إليها شاق وطويل. لذلك يصبح الصبر ليس مجرد فضيلة، بل استراتيجية حياة، والتأني ليس رفاهية، بل سلاحًا للبقاء. فالحداثة قد تدفعنا للاستعجال، لكن قضيتنا تعلّمنا أن ما يُنتزع بالصبر يدوم، وما يُبنى على العجلة ينهار مع أول هبة ريح.