مجزرة بصرية في مدارسنا
مقالات

مجزرة بصرية في مدارسنا

سألت فنانين تشكيليين كثيرين في فلسطين عن تفاصيل حصة الفن التي تعلموها كتلاميذ في المدارس، وهل كان لها أثر في إنضاج مواهبهم، أو مدهم بخبرة أولية، أو إلهامهم طرقاً ومناخات وخامات، فكانت معظم الإجابات كالتالي: في المدارس، بدأنا نرسم وحدنا، أو بتشجيع من الأهل، أو بعض الأصدقاء، وأحيانا قليلة جداً، من المدرسين. وفي المدارس، لم يكن هناك سخاء في تزويدنا بأدوات رسم، والمناخ العام في المدرسة كان مستهتراً بالفن، أو محايداً في النظرة له. هناك مدرسون كانوا يشبهون (الأخطاء) في المدارس، وجدوا مصادفة أو لوقت قليل. كان لهم فضل تشجيع وتبني أساليب فنية حديثة في بعض المدارس، لكنهم، وتحت ضغط الحاجة المادية، وربما هرباً من مناخ الاستهتار بالفنون في المدارس، يغادرون إلى مدارس خاصة، أو مؤسسات أخرى.

هي دعوة، هنا، إلى تحرك من اتحاد الفنانين الفلسطينيين، أو من أي جسم فني وثقافي، التدخل لفرض تعليم الرسم في مدارسنا بشكل جدي، بطرق لائقة وحديثة، والكف عن استخدام خدعة وجوده، والتوقف عن استخدامه في مهزلة استبدال حصصه السريع والجاهز مع مواد تدريسية أخرى. ذائقة طلابنا البصرية في خطر، حق طلابنا في الاستمتاع باكتشاف الحياة، وإعادة كتابتها لونياً وبصرياً، ما زال ممنوعاً. هيا، نسارع، مثقفين ورسامين ومهتمين، إلى دق جرس خطر غياب الذائقة البصرية في مدارسنا للطلاب وللمعلمين. لو تم إحصاء جثث حصص الفن في مدارسنا الفلسطينية الحكومية، لاكتشفنا مجازر مروعة لبقايا جثث متحللة وغير مدفونة تحت الأرض، بحق فن إنساني، من حق كل شخص الانتماء له وعشقه، فن مُنح لنا هدية لإنسانيتنا، وتكريماً لذوقنا، وحقنا في الاستمتاع بالحياة، واكتشاف أبعادها وفهم لغزها. ليس هناك مدرس فن دارس للفن التشكيلي في مدارس فلسطين، وإن وُجد فهو حالة نادرة، وغريبة على جسد المنهاج والرؤية التربوية العقيمة وخطط النشاطات السنوية. يدخل معلم الرياضات أو اللغة العربية أو التربية الإسلامية أو العلوم حصة الفن المقررة في برنامج حصص الطلاب الأسبوعي، يقول لهم بالحرف الواحد: ارسموا أي شيء. فيخرج الطلاب دفاتر رسمهم وألوانهم، فيشرعون في الرسم، رسم أي شيء كما طلب منهم، فيرسمون البحر والسماء والدبابة والتفاحة والطريق والشجرة والعصفورة، ولا يعرضون لوحاتهم على مدرس الفن، لأنه، ببساطة، لا يستطيع سماعهم، وهل يستطيع الرجل النائم بعمق سماع أي شخص آخر يحدثه؟ يخرج الأستاذ من الصف، متثائباً. وبضجر يدس الطلاب دفاتر رسوماتهم في حقائبهم، ويستعدون لحصة أخرى. يحدث هذا في حالة أن المدرس طلب منهم أن يرسموا. في معظم الحالات، لا يطلب منهم ذلك، لأنه يحوّل حصة الفن المقررة في برنامج الحصص إلى حصة مادة أخرى يدرّسها، كالعربي مثلاً أو التاريخ، يظن أنها أجدى (وأكثر جدية)، وتتعرض للرقابة والتفتيش، والاهتمام والمتابعة من أهالي الطلاب. ويكتشف المدقق في مشهد اغتيال حصة الفن في المدارس الفلسطينية خدعة مروعة، فالوزارة تقرر رسمياً في خططها وبرامجها حصصاً للفن، وترسل إلى المدارس مفتشين، لكنها لا توظف فنانين تشكيليين، ولا تهتم بمضمون تدريس مدرس الفن في الحصة، ولا تحتفي بمواهب الطلاب إلا مرة في العام، وفي مسابقات شكلية مرتجلة، وغير جدية، يُحكّم فيها معلمون، لا علاقة لهم بالفن.

هذا ليس خللا، وليس بيوقراطية أو سوء تقدير وإدارة، هذه مجزرة صامتة دائمة غير مرئية تتراكم أمام أعيننا دون أن نتأملها وتنتج ضحاياها بعد وقت طويل. وأتذكر هنا مشهدا مأساويا، لن أنساه: كان هناك تقليد في نهاية امتحانات الشهرين، يجلس فيه كل مدرس أمام صفه ليأتي الأهالي ويسألونه عن حالة أبنائهم في مادة الأستاذ، كنت حينها أمين مكتبة، جلست أمام المكتبة وكان الأهالي يمرون عني غير مكترثين، وسمعت أماً تقول لصديقتها وهي أم طالب آخر: تعالي انشوف عن وضع أولادنا في القراءة بالمكتبة، ورنّت كلمات الأم الثانية في أذني: كتب شو يا اختي اهم اشي مواد الرياضيات والإنجليزي والعربي، امشي امشي.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.