
ما يسبق: الصفقة الجزئية أو الشاملة أم التصعيد؟
بعدما بدت الصفقة الجزئية بشأن غزّة في متناول اليد، وتضاءلت فجوات الخلاف حول خرائط الانسحاب ومفاتيح الأسرى والمساعدات الإنسانية والضمانات، فجّر المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، بعد لقائه مع الوزير الأقرب إلى بنيامين نتنياهو رون ديرمر، الموقف بشكل مفاجئ، زاعمًا أن حركة "حماس أفشلت المفاوضات"، ولوّح بوجود "خيارات أخرى". ثمّ بدأ ترويج فكرة التحوّل من صفقة جزئية إلى صفقة شاملة، تحت طائلة التهديد: فإمّا أن توافق "حماس" على الشروط المطروحة، أو يُشدَّد الحصار الخانق على المناطق التي لم تُحتلّ بعد، وربّما احتلالها، رغم معارضة الجيش الإسرائيلي الذي يدرك أن أيَّ اجتياح جديد سيستغرق وقتًا كبيرًا حتى يحقّق الأهداف الموضوعة، وأنه بحاجة إلى تعزيزٍ كبير في القوات العاملة في القطاع، في وقت صار فيه جيش الاحتلال منهكًا، وتقييمه أن الحرب استنفدت أغراضها، والاجتياح سيعرّض حياة الأسرى الإسرائيليين إلى خطر شديد، وسيكبّد القوات المحتلّة خسائرَ كبيرةً، وقد يفضي، في النهاية، إلى الوقوع في مستنقع حرب استنزاف طويلة، واحتلال القطاع، وفرض حكم عسكري مباشر عليه، ما سيفاقم العزلة والغضب على دولة الاحتلال، ويزيد احتمالات فرض عقوباتٍ جدّية عليها.
هناك مخرج فلسطيني جماعي لم يُؤخذ به، يتحقّق من خلال تقديم القيادة الرسمية مخرجًا لـ"حماس"، يسمح بمشاركتها في النظام السياسي
حتى نضع أيدينا على سرّ التحول الكبير الذي حصل خلال الأسبوعَين الأخيرَين، نرى أن العالم هاله وانشغل بحقيقة ما يجري في القطاع من حرب إبادة وتجويع ممنهج أدّى إلى موت مئات المدنيين من الجوع، وتهديد حياة مئات آلاف في حرب باتت تستخدم الجوع أداة ضغط لتحقيق ما فشلت فيه الحرب العسكرية والإبادة والتهجير. ولم تكن خطط بناء "المدينة اللاإنسانية" في جنوب القطاع، أو "المناطق اللاإنسانية والآمنة" الأخرى، سوى تعبير عن نيةٍ دفينةٍ لفرض التهجير القسري أحدَ أهداف الحرب، وهو هدف لا يعتبر طرحه (شأنه شأن الضمّ) مجرّد مناورات تكتيكية تستهدف تغيير موقف "حماس"، وموقف بقية فصائل المقاومة. ومثلما أنكرت إسرائيل نكبة 1948 فإنها تنكر اليوم نكبة التجويع والمجاعة التي حوّلت مراكز توزيع المساعدات، التي أنشأتها "منظمة غزّة اللاإنسانية" مصائد موت. إذ أُجبر آلاف المدنيين على التزاحم والحصول على الطعام خلال ثماني دقائق فقط، بتوزيعه بين أربعة مراكز توزيع، ما أدّى حتى كتابة هذه السطور إلى استشهاد أكثر من 1300 شخص، وإصابة نحو سبعة آلاف آخرين.
رغم أن المؤشّرات كانت تدلّ على رغبة نتنياهو في إتمام الصفقة، وخشيته منها، في الوقت نفسه، خصوصًا لإرضاء دونالد ترامب الذي كان يدفع من أجل إبرام الصفقة، وكسب نقاط انتخابية بعد الحرب الإيرانية الإسرائيلية، وتصوير أنها وجّهت ضربات قاصمة لإيران، وهذا ظهر لاحقًا على حقيقته، بدليل أن إسرائيل تلقّت هي الأخرى ضرباتٍ قوية غير مسبوقة، وأن النظام الإيراني صامد على مواقفه السابقة، والمطالب منه نفسها لا تزال مطروحةً، ولأن المعارضة الإسرائيلية الداخلية لاستمرار الحرب تتزايد، بما في ذلك رفض الحريديم للتجنيد، وتنامي ظاهرة رفض الخدمة العسكرية، وخسائر الجيش البشرية، واستمرار وتزايد حالات الانتحار بين جنود شاركوا في الحرب، وانحياز المؤسّسة العسكرية لخيار الصفقة الجزئية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحسابات السياسية المعقّدة بعد حرب التجويع أدّت إلى أن أصبحت صورة إسرائيل في العالم في الحضيض، حتى لدى أقرب الحلفاء، مع ازدياد استخدام مصطلحات "الإبادة الجماعية" و"الفصل العنصري" و"المجاعة" في وصف أفعالها. هذا المشهد، إضافة إلى "تسونامي" الاعتراف بالدولة الفلسطينية، الذي شمل دولًا كبرى: فرنسا وكندا وبريطانيا، شكّل صدمةً سياسيةً لحكومة اليمين المتطرّف في إسرائيل، وجعل نتنياهو يتراجع عن عزمه على اللجوء لانتخابات مبكّرة خشية من خسارتها، ما جعله بحاجة إلى استمرار حكومته أطول ممّا كان يعتقد بعد "الانتصار" على إيران، وأخذ يراهن على تصعيد الحرب، لأن الصفقة الجزئية يمكن أن تقود إلى وقف الحرب في ظلّ وجود "حماس"، وهذا يعتبر هزيمةً ستقوده إلى خسارة مؤكّدة في الانتخابات، ومحاسبة عسيرة من لجنة التحقيق التي ستحقّق في الإخفاق التاريخي في "7 أكتوبر" (2023)، والإخفاق الأكبر منه في عدم استكمال تحقيق الأهداف ووقف الحرب، رغم مرور نحو 22 شهرًا على اندلاعها، لذا يسعى إلى صفقة جزئية بشروطه أو تصعيد الحرب بعد محاولة كسر حدّة الانتقادات الدولية من خلال السماح بقدر من المساعدات الإنسانية.
هناك رهان إسرائيلي مصادق عليه أميركيًا على انهيار المقاومة واستسلامها، بفعل الضغوط الشعبية والسياسية، أو إمكانية تحرير الأسرى بالقوة
من وجهة نظر نتنياهو وحكومته، بات العالم كأنّه "يكافئ حماس" والفلسطينيين بالاعتراف بدولة فلسطينية، رغم كلّ الشروط الظالمة المفروضة على الفلسطينيين، بما فيها الدعوة إلى سحب السلاح وإبعاد "حماس" من الحكم، والتي تضمّنها إعلان نيويورك، فيما لا تُفرض أيّ شروط على إسرائيل، الدولة التي تنتهك القانون الدولي، وارتكبت كلّ أنواع الجرائم، وتضم وزراء يطرحون أفكارًا عن إبادة وتهجير وضمّ أرض الغير. ومن جهة واشنطن، شهد الموقف الأميركي تحوّلًا، كما نقل عن مسؤول مصري، قال إن واشنطن أقلّ انخراطًا في الضغط على إسرائيل لوقف الحرب، ولهجة المسؤولين الأميركيين تغيّرت، وأصبحوا يركّزون في المطالبة باستسلام "حماس"، ويرفضون المفاوضات التي تؤدّي إلى وقف مؤقّت لإطلاق النار، مع الترويج لصفقة شاملة لا تتضمّن انسحابًا إسرائيليًّا، ولا تضمن وضع أيّ حدّ للإبادة والضمّ والتهجير، بل تتضمن شروطًا تعجيزية، مثل إعطاء "حماس" مهلةً حتى تطلق سراح الأسرى الإسرائيليين فورًا، ومن دون مقابل، ونزع سلاح "حماس" وإخراجها من المشهد السياسي، وتسليم الحكم للولايات المتحدة من دون السلطة الفلسطينية أو لجنة الإسناد المجتمعي. وهو مقترح لا يفتح طريق المفاوضات، بل يُعدُّ وصفةً للاستسلام، لا للتسوية، وهو مقترح فرصه في النجاح إذا لم يُعدَّل بشكل ملموس ليست كبيرةً، بل سيُواجَه بمعارضة حتى من الدول العربية وتركيا وكندا وأوروبا، الذين يدعمون عودة السلطة بعد تجديدها إلى قطاع غزّة، حتى يمكن تطبيق ما تعهّدوا به من إقامة الدولة الفلسطينية.
وقد جاء هذا التحوّل أيضًا على خلفية تراجع شعبية ترامب وحزبه نتيجة حرب غزّة، وأسباب أخرى، وتورّطه في فضيحة إبستين التي تُستخدم للضغط عليه، لتقليص أيّ تأثير محتمل له على الموقف الإسرائيلي. هل التصعيد العسكري هو السيناريو الوحيد؟... لا، فالعديد من العوامل التي دفعت نحو الصفقة الجزئية ما زالت قائمةً، أهمها أن الفجوة بين الموقفين صغيرة، بدليل الحديث عن منح واشنطن وإسرائيل مهلةً لـ"حماس"، ولو قصيرة، فالتصعيد العسكري لا يملك عصًا سحريةً، سواء إذا أخذ شكل الحصار الأشدّ أو احتلال مواقع جديدة أو احتلال ما تبقّى من أرض غير محتلة. وهناك سباق حقيقي بين ثلاثة مسارات: صفقة جزئية تبقى مطروحةً رغم ابتعادها حاليًا من طاولة المفاوضات، وصفقة شاملة تبدو بعيدة المنال إذا لم تُعدَّل، وقد تستخدم تكتيكًا للضغط على "حماس" لدفعها إلى تقديم تنازلات جديدة، لأن الفجوة بين الموقفَين في ما يتعلّق بالصفقة الشاملة شاسعة جدًّا، وهناك أيضًا رهان إسرائيلي مصادق عليه أميركيًّا على انهيار المقاومة واستسلامها، بفعل الضغوط الشعبية والسياسية الفلسطينية والعربية، أو إمكانية تحرير الأسرى بالقوة من دون تفاوض.
تبدو خيارات "حماس" محدودةً، فقد وافقت عمليًّا على اقتراح ويتكوف، وبقيت مسائل يمكن الاتفاق عليها، لكنّها فوجئت بانهيار المفاوضات حين اقترب الاتفاق من الاكتمال. وإن وافقت أخيرًا على الشروط الإسرائيلية الأميركية الجديدة، فستبدو وكأنها استسلمت وأعلنت هزيمتها، وإن رفضت، فستُحمّل مسؤولية التصعيد المقبل.
لن تستسلم "حماس"، لأن الاستسلام لا يضمن وقف الحرب التي لا تستهدفها فقط، بل تستهدف تصفية القضية الفلسطينية
هناك مخرج فلسطيني جماعي لم يُؤخذ به، يتحقّق من خلال تقديم القيادة الرسمية مخرجًا لـ"حماس"، يسمح بمشاركتها في النظام السياسي، وفي المقابل تبدي حركة حماس المزيد من المرونة فتصبح هناك قيادة فلسطينية واحدة ومؤسّسة واحدة، تستند أوّلًا إلى الشرعية الفلسطينية، وثانيًا إلى الشرعية العربية والدولية. قدّمت "حماس" تنازلات كبيرة، منها الموافقة على الصفقة الجزئية رغم أنها ترجّح استئناف الحرب بعد انتهاء هدنة الـ60 يومًا، والاقتراب من الموافقة على خرائط تُبقي وجود القوات المحتلّة على أكثر من 20% من مساحة القطاع، والخلاف المتبقّي كان على عشرات أو مئات الأمتار، وعلى إطلاق سراح 200 أسير مقابل عشرة إسرائيليين، رغم أنها أفرجت سابقًا عن 500 مقابل العدد نفسه، كما قبلت بتسليم الحُكم للجنة الإسناد المجتمعي فور بدء هدنة الـ60 يومًا، واكتفت بالضمانات الأميركية لهذه الهدنة، من دون إصرار على ضمانات تمنع استئناف الحرب، ولا تستطع أن تقدّم أكثر، لأنها لن تستسلم، خصوصًا أن الاستسلام لا يضمن وقف الحرب التي لا تستهدف "حماس" فقط، وإنما تستهدف تصفية القضية الفلسطينية بكلّ مكوّناتها، بما فيها التهجير والضمّ، والاستسلام ليس من المضمون أن يوقف الحرب، ويمكن أن يفتح شهية دولة الاحتلال لمواصلة تطبيق أهدافها المُعلَنة وغير المُعلَنة.
وقف الإبادة يجب أن يكون الأولوية القصوى لأنه يفتح الطريق لوقف التهجير والضمّ ويحفظ وجود المقاومة، فمن دون وجود الشعب في أرضه لا توجد مقاومة، ويعيد المسألة الفلسطينية إلى مسارها الصحيح: إنهاء الاحتلال وتجسيد الحرية والاستقلال. ويتطلّب ذلك البناء على الحراك الدولي الداعم للاعتراف بالدولة الفلسطينية، رغم الشروط الظالمة التي يتضمّنها، والعمل لتشكيل قيادة وطنية موحّدة، وبرنامج سياسي واحد، وسلاح واحد يقوم بواجبه في الدفاع عن الوطن والمواطن، ويخدم ويلتزم بالاستراتيجية الوطنية، وبقرارات المؤسّسات الوطنية الشرعية الموحّدة.

هل تنقذ الصناعة ما تبقّى من الاقتصاد الفلسطيني؟

سنظل نطرق جدران الخزان حتى لو أُدميت أيدينا

تعمّق أزمة الماليّة العامّة ... والحلول المُتاحة

دولة فلسطين: ماذا يضيف الاعتراف الـ148؟

لقد أوجعنا مصابك يا مجدي

وجهة نظر .. قرار وإقرار

التكيّف العاطفي وفلسفة مقاومة التعليم في فلسطين
