الدين العام الفلسطيني: من يُقرض من؟ وإلى متى؟
مقالات

الدين العام الفلسطيني: من يُقرض من؟ وإلى متى؟

الكاتب/ مستشار اقتصادي دولي – عضو مجلس إدارة هيئة التحول الرقمي الدولية – دبي

في خضم غزارة الأجندات اليومية التي تطغى على واقعنا الفلسطيني — من رواتب متأخرة، إلى إيداعات مجزأة، وفواتير مياه وكهرباء تنهك كاهل المواطن، مرورًا بتقليص ساعات الدوام للموظفين وسيناريوهات مالية تتبدل كل أسبوع — يحتار قلمي بماذا يكتب، وأيّ زاوية تستحق أن تكون أولوية. لكن وسط هذا التشويش، يظل سؤال واحد يتكرر بإلحاح: ما مصير الدين العام الفلسطيني؟ ومن يقرض من؟ وإلى متى ستبقى الحكومة تستدين لتغطية نفقاتها التشغيلية بدلًا من الاستثمار في مستقبل اقتصادي مستدام؟

في هذا السياق المأزوم، لا يمكن فصل مسار الدين العام عن المشهد الاقتصادي الأشمل، والذي يتداخل فيه اختلال إدارة المال العام مع شح الموارد وتعقيدات القيود الإسرائيلية.
اللافت أن الدول تلجأ إلى الاقتراض عادةً لتطوير البنية التحتية وإنشاء مناطق حيوية واقتصادية تُسهم في دفع عجلة النمو. أما في الحالة الفلسطينية، فنحن نقترض غالبًا لتغطية الرواتب والإنفاق التشغيلي، وهي مؤشرات خطيرة على هشاشة التخطيط المالي واستنزاف الموارد دون تحقيق تراكم إنتاجي أو تحفيز اقتصادي.

شهد الدين العام الفلسطيني تناميًا متسارعًا منذ عام 2005 حين كان بحدود 4.2 مليار شيكل، ليرتفع تدريجيًا خلال السنوات التالية، بالتوازي مع تراجع المساعدات الخارجية، ليصل إلى ما يقارب 16 مليار شيكل في نهاية عام 2024، بحسب بيانات وزارة المالية وتقارير رقابية. وتشير التقديرات إلى أن الدين العام يشكّل اليوم نحو 85.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو من أعلى النسب في المنطقة. وتُظهر بيانات الموازنة أن المساعدات الدولية لميزانية السلطة تراجعت من نحو 2 مليار دولار سنويًا في العقد الأول من القرن الحالي إلى حوالي 400 مليون دولار فقط في 2023، أي من نحو 27% من الناتج المحلي إلى أقل من 2%. هذا الانخفاض الحاد في الدعم دفع الحكومات المتعاقبة إلى تحسين الجباية ورفع الإيرادات، ولكن دون قدرة حقيقية على تغطية العجز السنوي المتراكم، مما دفعها إلى الاقتراض المحلي من البنوك، وصناديق التقاعد، والقطاع الخاص.

تُظهر البيانات الصادرة عن وزارة المالية أن إجمالي الدين العام قد بلغ في شباط 2025 نحو 14.7 مليار شيكل، منخفضًا من 15.3 مليار شيكل في كانون الثاني 2025، ومن 15.36 مليار شيكل في كانون الثاني 2024. وفي الوقت ذاته، تكشف تقارير رقابية موثقة أن حجم الدين العام الكلي للحكومة الفلسطينية يلامس 16 مليار شيكل، موزعة بين 5 مليارات شيكل ديون خارجية، و11 مليار شيكل ديون للقطاع الخاص. من ضمن هذا الدين الأخير، هناك ما يقارب 2 مليار شيكل للقطاع الصحي، و700 مليون شيكل للمقاولين.

أما الدين الداخلي، فيحمل أبعادًا إضافية حين ندرك أنه لا يقتصر على البنوك فحسب، بل يشمل أيضًا المتأخرات المستحقة للقطاع الخاص، ومستحقات الموظفين العموميين، وصناديق التقاعد، والموردين. وتشير التقديرات إلى أن الدين المستحق للبنوك بلغ 2.88 مليار دولار، وللهيئة العامة للتقاعد نحو 3 مليارات دولار، بينما تجاوزت الديون المستحقة للموظفين 1.50 مليار دولار، وللقطاع الخاص 1.5 مليار دولار. هذه الالتزامات المتراكمة تهدد قدرة الحكومة على الوفاء بمتطلباتها الأساسية وتضعف الثقة العامة في استقرار النظام المالي.

ولا يمكن فهم أزمة الدين العام دون التطرق إلى نظام المقاصة، الذي يُعد المصدر الرئيسي للإيرادات العامة الفلسطينية، إذ تُشكل ما بين 60 إلى 70% من إجمالي دخل الحكومة. وفق البيانات الرسمية، بلغت أموال المقاصة المحولة من الجانب الإسرائيلي خلال عام 2024 حوالي 9.9 مليار شيكل، إلا أن التقديرات تُشير إلى أن المبلغ المستحق فعليًا قبل الاقتطاعات تجاوز 12.8 مليار شيكل، أي أن ما تم اقتطاعه قسرًا من قبل الاحتلال يُقدر بأكثر من 2.9 مليار شيكل — ما يعادل نحو 22.6% من الإيرادات.

تُبرّر إسرائيل هذه الاقتطاعات برواتب الأسرى والشهداء، أو بفواتير الكهرباء والمياه، دون وجود آلية مراجعة أو تدقيق ثنائي. ما يعني أن الحكومة تُجبر على التداين الداخلي لتغطية هذا النقص المزمن، مما يؤدي إلى تفاقم الدين العام بدلًا من معالجته. والأسوأ أن هذه الاقتطاعات تُحوّل فعليًا إلى أداة ضغط مالي وسياسي بدل أن تبقى ضمن ترتيبات إدارية واقتصادية متفق عليها.

من الجوانب التي لا يتم تسليط الضوء عليها كثيرًا، هي المخاطر الكبيرة التي تواجه القطاع الخاص الفلسطيني، الذي يستمر في توريد السلع والخدمات للحكومة رغم تراكم الديون وتأخر السداد. مع مرور الوقت، تصبح هذه الديون عبئًا على الشركات، فتضطر إلى تقليص نشاطها، أو تأجيل توسعها، أو حتى تسريح عمالها، مما يُفاقم معدلات البطالة ويُضعف الدورة الاقتصادية. وفي حال استمرت الحكومة في تأجيل السداد دون خطة واضحة، فإن ذلك يُهدد بثقة القطاع الخاص في التعامل معها، ويدفعه إلى تقليل الانكشاف على القطاع العام أو فرض شروط أكثر تشددًا في المستقبل.

الحلول العملية:

ومن هنا تبرز الحاجة لتفعيل قانون الدين العام الفلسطيني رقم (24) لسنة 2005، وتعديله بما يواكب التحديات المالية الراهنة. فقد نص هذا القانون على تنظيم الاقتراض الداخلي والخارجي، وإخضاع اتفاقيات الدين العام الخارجي لموافقة المجلس التشريعي، ونشرها في الجريدة الرسمية. إلا أن غياب التفعيل العملي، في ظل تعطل الرقابة التشريعية، أفقد هذا القانون الكثير من أدواته التنفيذية. إن تطوير هذا القانون ينبغي أن يتضمن بنودًا صريحة لضمان حقوق الأفراد والمؤسسات، خصوصًا فيما يتعلق بتأمين سداد مستحقاتهم، وحمايتها من التآكل الزمني، عبر ربطها بمؤشرات مالية عادلة، وضمان إدراجها ضمن الموازنة العامة، مع جدول زمني واضح للسداد.

وفي ظل التوسع المستمر في فاتورة الرواتب، التي ارتفعت من 6.4 مليار شيكل في 2011 إلى 8.4 مليار في 2021، والمتوقع أن تصل إلى 8.9 مليار شيكل في 2025، دون تحسن موازٍ في الأداء الحكومي، فإن أحد مصادر النزيف المالي يكمن في العلاوات غير المرتبطة بالكفاءة. فقد أظهرت التقارير أن معظم الموظفين يتقاضون علاوات لا تعكس أدوارًا وظيفية أو إنتاجية، مما فاقم الفجوة بين النفقات الفعلية والمردود المؤسسي. وهنا تبرز الحاجة لمراجعة قوانين الخدمة المدنية وخدمة الأمن التي أقرت قبل نحو عقدين، إذ أصبحت تشكل عبئًا ماليًا مزمنًا.

إضافة إلى ذلك، لا بد من سن قانون محدّث يُنظم الدين العام ويضع سقفًا قانونيًا كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ويُلزم الحكومة بتوجيه جزء من القروض نحو الإنفاق الاستثماري الذي يُولّد عوائد مستقبلية، بدلًا من الاستنزاف في الرواتب والنفقات التشغيلية فقط.
والسؤال الذي يجب أن نجيب عليه اليوم، قبل الغد: هل نحن ندير الدين… أم أن الدين هو من يديرنا؟

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.