
عن غزة: بين جوعها وتجويعها
يتذوّق من تسنّى لهم الخبز من أطفال غزة دماء آبائهم في كل كسرة فيه، فيما صار يخلط كبارهم من أهالي القطاع المنكوب وما تبقى من طواقم عمل فيه الماء بالملح لإسكات أمعائهم من غائلة الجوع. الغزّيون يشربون بحرهم فعليًا، وعلى معدة فارغة، في عالمٍ بدا فارغًا من إنسانيته أكثر مما تصورنا، وأمة فُرّغت من موقفها لتقف في صف الصلاة المحايدة.
جُوّعت غزة غير مرة في تاريخها، وفي تاريخ المدينة الحديث، جاع أهلها في الحرب العالمية الأولى مثل سائر أهالي بلاد الشام في حينه. كتبت مريام بيز بو صادر في يومياتها "مجاعة لبنان: شاهدة وشهداء" عن تجويع الأتراك سكان جبل لبنان إلى الحد الذي دفع ببعض الأهالي لأكل لحم ذويهم الأموات. بينما كتب الطبّاع في كتابه "إتحاف الأعزّة في تاريخ غزة" عن مدينته غزة متأسّيًا عليها بعد أن حولتها حرب العثمانيين الأتراك ضد قوات الحلفاء إلى خط دفاع متقدم، وقد جاءت على الأخضر واليابس الحرب وقتئذ، فكان الحَساء طعام الجوع...
أكل بعض الأهالي في المدينة وريفها ألواح الصبّار الذي كان يحيط الحواكير ويرصفُ الطرقات، مما سبب ذلك انتفاخًا في أمعائهم الفارغة، فأودى بحياة بعضهم منتفخين على الطرقات. ثم جاء الجراد في أواخر عام 1915، ليقضي بدوره على كل ما كان يمكن له أن ينجو في الحرب من زرعٍ وخضار. في حينه كان لدى أهالي غزة إلى أين يولّوا عن مدينتهم التي غدت خرابًا بفعل الحرب، وقد لاذوا بالجبال ومدن فلسطين الداخلية، وبعضهم حطّت عصا رحاله في الشام وبيروت.
في النكبة عام 1948، جوّع الصهاينة غزة بعد تدفق مئات آلاف النازحين - اللاجئين من يافا جنوبًا إليها، نحو 220 ألف نازح حلّوا لاجئين في مدينة تعداد أهلها لم يكن يتجاوز الـ80 ألفًا، وقد بُترت غزة من ريفها وأطرافها اللذين كانا مصدر غذائها، مما هددها بمجاعة حقيقية لولا البحر، الذي، وبحسب جمال زقوت في مذكراته "غزاوي: سردية الشفاء والأمل"، تحوّل إلى سلة غذاء للغزّيين، إذ لم يبخل عليهم بأسماكه كما صار يبخل عليهم اليوم. وظلّت غزة التي تحوّلت إلى قطاع منذ مطلع الخمسينيات، تغفر للبحر كلما ابتلع أحد أبنائها على معروفه يوم أن خوت أمعاء لاجئي النكبة.
تُفرّق أمعاء الغزيين في تاريخها الحديث بين الجوع والتجويع، فالجوع ظرف، بينما التجويع حدث، وحدث تجويع الغزيين منذ بدء حرب الإبادة عليهم في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023 كان واحدًا من بين أكثر أسلحة الحرب فتكًا بالغزيين وأطفالهم، هذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحصار المفروض على القطاع وأهله قبل الحرب منذ عام 2007، الذي كان يُحسب لأمعاء الغزيين بالسعرة الحرارية، بما أعاد تشكيل أبدان الغزيين ونظام الطبخ وأصنافه في غزة، حيث صار يتناول معظم الغزيين وجبتين لا ثلاثًا في اليوم كما كان قبل حصارهم.
منذ مطلع آذار/مارس الماضي، كثّف الاحتلال من سياسته المتصلة بتعطيل حركة مرور قوافل الإغاثة إلى غزة إلى حدّ حظرها في بعض المناطق في داخلها. وبدوره، تحوّلت نقاط توزيع الغذاء والمساعدات الإنسانية إلى أفخاخ موت، إما بسبب التدافع عليها عندها، أو الاستهداف المباشر برصاص جيش الاحتلال. يغامر الغزيّون في الأشهر الأخيرة بحياتهم عند خروجهم من خيامهم إلى نقاط ومراكز تلقي المساعدات، لقد آثر الآباء الغزيّون الموت قتلاً بالرصاص عند نقاط توزيع الغذاء، على موت أطفالهم جوعًا في خيامهم. إذ لا يدافع الغزي عن حياته في مواجهة الجوع، بقدر ما بات يدافع عن شكل موته نفسه في طريقه لمواجهة الجوع، تدافعًا أو قصفًا أو رميًا بالرصاص.
غدت ما كانت تُعتبر مناطق زراعية في قطاع غزة تحت سيطرة جيش الاحتلال بشكل تدريجي منذ بداية الحرب، كما دمّر جيش الاحتلال كل مزارع الثروة الحيوانية في القطاع، كما تولّت بوارج جيش الاحتلال الحربية - البحرية مهمة تدمير قوارب صيد الغزيين في البحر، قتلت من قتلت من الصيادين واعتقلت بعضهم في سياسة تجويع يتعمد الاحتلال فيها منع البحر من أمعاء أطفال القطاع.
ليست المنظمات والمؤسسات "الإنسانية" العالمية وحدها من يتواطأ في حدث تجويع الغزيين، وقد وفّر الاتحاد الأوروبي غطاءً قذرًا للاحتلال تحت عنوان ما يسمى اتفاقيات "إدخال الغذاء" التي صمّمتها حكومة نتنياهو سلاحًا في طريق حربها على القطاع لتركيعه عبر تجويعه. وتُجّار الاحتكار وأصحاب المخازن ومرابون في القطاع كذلك تواطؤوا منذ نحو عقدين في تصميم ما يُعرف باقتصاد الحصار، وما زالوا في ظلّ حرب الإبادة والتجويع الدائرة منذ أكثر من عشرين شهرًا يسهمون في اقتصاد الجوع. وبئس الجوار، ذلك الذي ترضى فيه دولة مثل مصر، بثقل تاريخها وشعبها، موت الغزيين قصفًا ثم جوعًا، وغزة امتدادٌ مصري، وأهلها نصف مصريين. فيما أمة عربية وإسلامية بأكملها تتفرّج حرفيًّا على تجويع آخر معقلٍ للدفاع عن كرامتها في التاريخ الحديث.
عشرات الأطفال حصد التجويع أعمارهم حتى اليوم في غزة، فيما عدد شهداء نقص الغذاء بالمئات، وقد قارب الـ630 شهيدًا. لا يُهين الجوع تجويعًا كرامة المُجَوَّعين، بل يُعيد تعريفهم لكرامتهم أيضًا إذا ما نجوا، لناحية فكّ ارتباطهم بكل ما سبق على جوعهم من علاقات ونُظم ومفاهيم. لا يعود المجتمع مجتمعًا على أرضه، ولا حاضنة تظلّ فيه للمقاتلين دفاعًا عنها، طالما صار على مليوني إنسان الدوران بلحمهم حول رغيف خبز بحثًا عنه.
إن الوقوف على مرأى من التجويع، ثم الاستعاضة عن التحرّك لمنعه، بقراءته تحليلًا باردًا في الأخبار وعلى شبكات التواصل بوصفه أداة من أدوات حكومة الاحتلال وشركائها في الحرب للضغط على حماس في ظل المفاوضات معها على صفقة محتملة قريبًا، هو أسوأ ما في غائلة الجوع الجارية، لا بل شراكة فيها وغيلة في أمعاء أطفال غزة. أساسًا، لا تُنهي هدنة أو وقفٌ لإطلاق النار في غزة تجويع هذه الأخيرة، لأن سياسة التجويع قائمة منذ قبل الحرب، وتحوّلت سلاحًا في ظلها، ووقف نيرانها مستقبلًا قد لا يعني بالضرورة وقف جوعها، طالما هي حرب إبادة.
ما يعني أن تفاقم سياسة التجويع بهذا الشكل من التكثيف الوحشي للإبادة، فيه ما هو أبعد من مجرد أداة ضغط لراهن متصل بمفاوضات على هدنة أو إنهاء حرب، إلى خطوة أكثر وحشية في تنظير الحرب وتصميم الإبادة، بما يدفع إلى تعزيز جدوى الهجرة تهجيرًا بعيون الغزيين وأمعائهم معًا.

الدين العام الفلسطيني: من يُقرض من؟ وإلى متى؟

أين حركة فتح؟

القادم أسوأ إن بقيت المواقف على حالها

مرسوم الانتخابات والمأزق الفلسطيني: بين الحاجة للإصلاح ومخاطر الإقصاء

التجويع وسيلة فتاكة للإبادة… والأولوية الفلسطينية للانقاذ ومنع التهجير

رد موظفي القطاع العام على مقال السيد سمير حليله بعنوان: “الزيادة في العلاوات: جوهر أزمة ال...

إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني
