ممداني الملهم
مقالات

ممداني الملهم

لم يكن فوز زهران ممداني برئاسة بلدية نيويورك حدثًا انتخابيًا عابرًا، بل تحوّلًا ثقافيًا وسياسيًا تجاوز حدود المدينة الأمريكية إلى شوارع فلسطين ومخيماتها الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي. فالشاب الذي وُلد لأبوين مهاجرين من أصول هندية وأوغندية، استطاع أن يهزم المال بالوعي، وأن يثبت أن السياسة يمكن أن تعود إنسانية، قريبة من الناس، تعبر عن أحلامهم لا عن حسابات الممولين. وفي لحظة تزداد فيها خيبة الشباب من جدوى المشاركة العامة، جاء فوزه بمثابة شرارة أمل جديدة؛ إذ رأى فيه كثير من الفلسطينيين نموذجًا للجيل الذي لا يرضخ، بل يصنع طريقه بالإصرار والوعي.

زهران، الذي ينتمي إلى التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي، صنع مع زوجته راما دوجي قصة نجاح نادرة في المشهد الأمريكي المزدحم بالمصالح والنفوذ. فبينما تولّى هو قيادة الحملة الانتخابية بروح الميدان والتواصل المباشر مع الناس، كانت راما – المخرجة السينمائية المبدعة – توثّق هذه الرحلة وتحولها إلى رواية إنسانية مؤثرة، تجمع بين الصدق والبساطة والحلم. لعبت دورًا خفيًا لكنه حاسم، إذ أعادت صياغة صورة زوجها في عيون الجمهور ليس كسياسي تقليدي، بل كإنسان يرى في السياسة وسيلة لخدمة الناس لا السيطرة عليهم. لقد تحولت راما إلى جزء من الحكاية، رمزًا للشراكة التي تتجاوز الحب لتصبح مشروعًا مشتركًا للعدالة والكرامة.

ما جعل ممداني ظاهرة استثنائية هو أنه أعاد تعريف العلاقة بين السياسة والناس. لم يدخل السباق بتمويل ضخم أو حملات دعائية صاخبة، بل ببساطة الميدان وصدق الكلمة. كان يطرق أبواب الفقراء، يجلس في المقاهي الصغيرة، يصغي إلى القصص التي لا يسمعها أحد، ويرسم منها برنامجه الانتخابي. تحدث عن الإيجار، والنقل العام، والتعليم، والعدالة السكنية، وقضايا الناس اليومية التي تغيب غالبًا عن أجندات السياسيين. وهكذا بنى وعيًا جماعيًا جعل الناس يشعرون أنهم جزء من الحملة، لا مجرد ناخبين. فكانت هزيمته لآلة المال السياسي بمثابة استعادة للروح الديمقراطية التي فقدتها نيويورك منذ زمن.

أما في فلسطين، فقد تحوّل هذا الفوز إلى حديث واسع بين الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي. لم يُنظر إلى ممداني فقط كسياسي تقدمي، بل كرمز لجيل يؤمن بالعدالة ويرفض الخضوع. امتلأت الصفحات الفلسطينية بصوره وتعليقاته ومقاطع من خطاباته، وبدأت المقارنات بينه وبين الواقع المحلي: لماذا لا نملك نحن سياسيين يشبهونه؟ كيف يمكن أن يتحول الوعي إلى أداة فعل حقيقية؟ بدا وكأن فوزه أيقظ فيهم شعورًا دفينًا بأن النجاح ممكن حتى في أكثر البيئات قسوة، وأن التغيير لا يحتاج إلى نفوذ بل إلى إيمان وإصرار. كان مصدر إلهام خاص لجيل فلسطيني.

الأكثر إثارة أن زهران نفسه لم يخفِ اهتمامه بالقضية الفلسطينية، بل تحدّث علنًا عن حقوق الشعب الفلسطيني ورفض القمع والتمييز، وهو ما جعله أكثر قربًا من قلوب الفلسطينيين الذين رأوا فيه وجهًا جديدًا للسياسة الأمريكية لا يخضع للخطاب التقليدي. لم يكن مجرد فوز لرجلٍ من أصول مهاجرة، بل فوزًا لقيم العدالة والحرية التي تتجاوز الحدود، وتجعل من الانتماء الإنساني جسرًا بين الشعوب.

في مشهدٍ عالمي يزداد انقسامًا، جاء فوز ممداني وزوجته راما كتذكير بأن القيم لا تموت، وأن الكلمة الصادقة يمكن أن تهزم المليارات، وأن السياسة لا تزال قادرة على أن تكون فعلًا أخلاقيًا إنسانيًا. ومن المدهش أن هذا الإلهام لم يتوقف عند حدود نيويورك، بل وصل إلى رام الله وغزة، إلى شباب يكتبون منشوراتهم كل يوم بين القهر والأمل، فرأوا فيه انعكاسًا لحلمهم القديم: أن تكون السياسة فنًا لخدمة الناس لا وسيلة للهيمنة عليهم.

لقد تحوّل ممداني إلى أكثر من رئيس بلدية، إلى رمزٍ لجيل عالمي جديد يعيد تعريف مفهوم القيادة، لا من مقاعد الحكم بل من الميدان، لا من الأبراج العالية بل من الأزقة المزدحمة بالناس. وبجانب زوجته راما دوجي، شكّل نموذجًا نادرًا للانسجام بين الفكر والفن، بين العمل السياسي والرؤية الإنسانية، بين الطموح الشخصي والمصلحة العامة.

في زمنٍ ينهار فيه الإيمان بالمؤسسات، ويغرق العالم في الفردانية واللامبالاة، يأتي فوز زهران ممداني ليقول شيئًا بسيطًا وعميقًا في آن: التغيير يبدأ من الإيمان، والوعي أقوى من المال، والعدالة ليست شعارًا بل فعلًا مستمرًا. ومن بين كل المدن التي تابعت انتصاره، ربما لم يكن هناك من فهم معناه العميق كما فهمه الشباب الفلسطيني، الذين رأوا فيه مرآة لحلمهم المعلّق منذ عقود — حلم أن تكون السياسة أخلاقًا لا مصلحة، وأن ينتصر الوعي أولاً و أخيرًا.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.