عن لجنة المتابعة: عودة إلى سؤال النشأة
أربعة عقود ونصف مضت على تأسيس لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب في الداخل، منذ عام 1982. كان عقد السبعينيات بمثابة عقد التحولات الكبرى في حياة العرب في الداخل الفلسطيني، من أبرزها يوم الأرض عام 1976، وما ترتّب عليه من وعي سياسي بالذات الجماعية للعرب، الأمر الذي دفع إلى ضرورة إيجاد هيئة تمثيلية عليا تعبّر عن همومهم وتطلعاتهم وتتابع شؤونهم.
في حينه، وقبل تأسيس لجنة المتابعة، كانت اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، التي تأسست عام 1975، تُعتبر الهيئة التمثيلية الأبرز. وقد بدأت، بعد يوم الأرض، تتصدر المشهد السياسي في الداخل، مع العلم أنها اللجنة التي اصطدمت بالقوى الوطنية برفضها، بأغلبية كبيرة، تبنّي قرار لجنة الدفاع عن الأراضي العربية بالإضراب العام في 30 آذار/مارس. أي أن اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية كانت من أكثر من عارض قرار إضراب يوم الأرض، في الوقت الذي كانت أكثر من استفاد منه. فقد طرأ تغيير على اللجنة القطرية مع وصول بعض رؤساء البلديات والمجالس المحلية الممثلين للأحزاب الفاعلة في المجتمع العربي، إضافة إلى فئة جديدة من الشباب الذين حازوا منصب رئاسة مجالس محلية في قراهم، متجاوزين البنية التقليدية لرؤساء عقدَي الخمسينيات والستينيات، وذلك في ظل الزخم السياسي الذي خلّفه يوم الأرض على المشهد في الداخل.
غير أن اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية لم يكن بمقدورها أن تكون جسمًا تمثيليًا قوميًا جامعًا للعرب في الداخل، لأسباب كثيرة، أهمها أن السلطة المحلية تُعدّ امتدادًا للمؤسسة الإسرائيلية من ناحية تبعيتها لوزارة الداخلية، فضلًا عن وجود رؤساء سلطات محلية كانوا ممثلين لأحزاب إسرائيلية صهيونية، أو كون جزء كبير منهم قد وصل إلى منصبه بفعل فرز طائفي أو عائلي في قريته أو بلدته. هذا بالإضافة إلى طبيعة الأجندة التي ظلّت تحكم منطق العمل السلطوي المحلي، والتي تتناقض في كثير من الجوانب مع التطلعات الوطنية والقومية للعرب في الداخل. بل أكثر من ذلك، فإن المؤسسة الإسرائيلية كانت، أصلًا، من شجّع في حينه على قيام اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، عبر أدواتها من بعض رؤساء البلديات والمجالس العرب. مما استدعى إنشاء جسم تمثيلي بديل على المستوى القطري، فكانت لجنة المتابعة.
اتسعت لجنة المتابعة، منذ تأسيسها عام 1982، لتشمل بالإضافة إلى اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية، أعضاء الكنيست العرب، وأعضاء اللجنة التنفيذية للهستدروت العرب، ما شكّل تركيبة أسست لأول تناقض داخل اللجنة بين مركّبٍ منتخب محليًا، متمثل في رؤساء السلطات المحلية، ومركّبات أخرى يُنتخب أعضاؤها انتخابًا سياسيًا قطريًا، كأعضاء الكنيست وأعضاء اللجنة التنفيذية للهستدروت، هذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن أعضاء الكنيست العرب منتخبون للكنيست وليس للجنة المتابعة نفسها. ومع ذلك، ظلت اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية المركّب المركزي الأساسي، الناظم لإيقاع حركة لجنة المتابعة في القرار والمسار معًا.
وبحسب الدكتور عزمي بشارة في كتابه "العرب في إسرائيل: رؤية من الداخل"، فإن لجنة المتابعة، عند نشأتها، ضمّت في تركيبتها الأحزاب الصهيونية عبر ممثليها العرب في الكنيست، مما أكد على طابعها "العربي – الإسرائيلي"، كلجنة تنسيق لا أكثر، بين كافة القوى السياسية الفاعلة في المجتمع العربي وبين المجالس والبلديات المحلية. بمعنى أن رؤساء السلطات المحلية وأعضاء الكنيست يأتون إلى لجنة المتابعة للتنسيق والتشاور فيما بينهم، أكثر من كونهم فيها لتنظيم الأقلية العربية في الداخل.
ويضيف بشارة إلى تناقضات المتابعة في تشكيلها، نواقص أخرى مثلت عيوبًا في آلية عملها، منها غياب وضوح العلاقة التنظيمية بينها وبين المواطن العربي الذي يُفترض أن تمثّله اللجنة. ولذلك، فإن اعتبارها إطارًا تمثيليًا هو مسألة مفترضة وطنيًا لأن وجودها أفضل من غيابها، لكنها ليست مثبتة فعليًا. أما النقص الآخر، فهو إجرائي، إذ ليس للجنة نظام داخلي واضح يحكم عملية اتخاذ القرار، وكيفية متابعته وتنفيذه، رغم تسميتها بـ"لجنة المتابعة".
ما أراد بشارة قوله، في تناوله لتناقضات لجنة المتابعة في جوهر نشأتها وتركيبتها، هو أنه لا يمكن لأي إطار أن يكون تمثيليًا ديمقراطيًا وقوميًا جامعًا، ما لم يكن منتخبًا بشكل مباشر من قبل المواطنين الذين يُفترض به تمثيلهم. وهذه معضلة كانت وما تزال تتفاعل في جوهر لجنة المتابعة ودورها التمثيلي. غير أن هناك من يرى أن انتخاب لجنة المتابعة انتخابًا مباشرًا من قبل المواطنين العرب، يمثل تحديًا مغطّى بمسوح انفصالية عن المؤسسة الإسرائيلية، التي لا تعترف أصلًا بلجنة المتابعة كهيئة تمثيلية عليا للعرب، على الرغم من تعاملها وتنسيقها معها.
كانت هذه تناقضات لجنة المتابعة وما تزال، لكنها باتت اليوم في مواجهة تحديات أكبر وأخطر مما كانت عليه في العقود السابقة. فالمؤسسة الإسرائيلية لم تعد بالشكل الذي كانت عليه في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، خصوصًا مع تفشّي الصهيونية الدينية الفاشية في الخريطة السياسية الإسرائيلية. ولم تعد أجندة المؤسسة تمر بالضرورة عبر ممثلين عرب في أحزاب صهيونية، بقدر ما باتت أحزاب عربية أصيلة تتبنّى، أو لنقل تسلّم مؤخرًا، بواقع "صهيونية الدولة". هذا إلى جانب الخنق المستمر لـ"السياسي" الذي تمارسه المؤسسة عبر أجهزتها الأمنية في الداخل، وتضييق هامشه إلى الحد المشروط ببقائه على أرضيتها وأفقها السياسيَّين الصهيونيَّين.
ومن هنا تراجع دور وأداء الأطر التمثيلية العربية، ومنها لجنة المتابعة، ومعها القوى السياسية غير البرلمانية، وحتى البرلمانية، فبعضها مهدد بالشطب والحظر. فضلًا عن واقع المجتمع العربي الحارق، مع تغوّل العصابات الإجرامية، واستشراء آفة الجريمة في السنوات الأخيرة، ما بات يجعلنا، أفرادًا وهيئات، على مستوى غير مسبوق من الإرباك والعجز. ولجنة المتابعة، من وحي شرعيتها واسمها معًا، هي أول من يقع على عاتقه الإجابة على أسئلة راهن مجتمعها وجماهيرها.
إن ما يعيق آليات المتابعة في متابعة شؤون مجتمعنا وتحدياته الكبرى، هو ذلك الكامن فيها منذ ولادتها، من حيث بنيتها الوظيفية وطبيعة تركيبها التي ما تزال تنخرها تناقضات لأجندات متعارضة. فليس انتخاب رئيس جديد للجنة المتابعة، السبت القادم، بحد ذاته حلًا ولا وصفةً لعلاج أزمتها، إلا أن على رئيسها القادم أن يعي حجم تناقضات اللجنة التي يريد أن يرأسها، والتحديات التي يواجهها المجتمع الذي تريد اللجنة تمثيله، مما يعني أن عليه فتح باب العمل على مصراعيه، بدءًا من اللجنة نفسها.










