من إعلان الحريّة إلى رعاية الإبادة: أمريكا وتناقضها الأخلاقي في فلسطين
مقالات

من إعلان الحريّة إلى رعاية الإبادة: أمريكا وتناقضها الأخلاقي في فلسطين

في الرابع من يوليو بينما تتزيّن واشنطن بالأعلام والألعاب النارية احتفالاً بذكرى إعلان الاستقلال تُرفع الخطب التي تمجّد قيم “الحرية” و”الكرامة” و”حقوق الإنسان” وكأنها حقائق مُطلقة لا جدال فيها ، هذا الإعلان التاريخي الصادر عام 1776 يُعدّ من أكثر الوثائق السياسية إلهاماً في التاريخ الحديث وقد جاء فيه بوضوح:

“نحن نعتبر هذه الحقائق بديهية أن جميع الناس خُلقوا متساوين وأنهم وُهِبوا من خالقهم حقوقاً غير قابلة للتصرف منها الحق في الحياة، والحرية، والسعي وراء السعادة”.

بل ويؤكد أيضاً على حق الشعوب في مقاومة الظلم وتغيير الواقع القائم حيث ورد فيه:

“وعندما تصبح سلسلة من الانتهاكات والمظالم تهدف إلى إخضاع الناس لسلطة مطلقة يصبح من حقهم بل من واجبهم أن يطيحوا بتلك الحكومة ويُقيموا حكومة جديدة”.

لكن هذه المبادئ التي تأسست عليها الولايات المتحدة تتحوّل في سياساتها الدولية إلى مجرّد نصوص مُعلّقة تُستخدم وقت الحاجة وتُنسى حين تتعارض مع المصالح. والوجه الأوضح لهذا التناقض الكارثي يتجلّى في موقفها من القضية الفلسطينية حيث لا تلعب أمريكا فقط دور الحياد الزائف بل تتحوّل إلى شريك مباشر في الظلم، والإبادة، والقمع.

منذ نكبة 1948 حين هجّرت العصابات الصهيونية أكثر من 750 ألف فلسطيني ودمرت مئات القرى وارتكبت مجازر لا تُعدّ وقفت الولايات المتحدة في صفّ الجلاد في صف الاحتلال العنصري لا الضحية ، دعمت تأسيس كيان الاحتلال بكل الوسائل السياسية والمالية والعسكرية ووفّرت له مظلة الحماية في كل محفل دولي مانعةً أي مساءلة أو محاسبة.

وفي عدوان 2023–2024 على غزة الذي خلّف أكثر من 60 الف شهيد من المدنيين منهم 16,000 طفل شهيد و 17 الف امراة شهيدة ومجتمعات و عائلات كاملة أُبيدت من السجل المدني لم تكن أمريكا فقط غائبة عن الضغط لوقف القتل بل كانت الحارس الأمين لهذا القتل ومنع وقف حرب الابادة و استخدمت الفيتو في مجلس الأمن مراراً لتعطيل أي قرار يطالب بوقف إطلاق النار أو حماية المدنيين أو حتى إرسال مساعدات إنسانية ، و برّرت قصف المدارس والمستشفيات والمخيمات وخيم اللاجئين و قصف طالبي لقمة العيش تحت شعار “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس” متجاهلة القانون الدولي ومبدأ التناسب وأبسط قيم الإنسانية.

وفي كل مرة يُقتل فيها مدني في أوكرانيا أو يُصاب مستوطن في تل أبيب تتحرك واشنطن سياسياً وإعلامياً بسرعة الضوء ، أما عندما تُباد عائلة فلسطينية تحت الركام يُطلب من العالم الصمت والتحلّي “بالتعقّل”.

هذا الانحياز ليس لحظة طارئة بل استمرار لتاريخ أمريكي حافل بازدواجية المعايير ، فالبلد الذي صاغ إعلان الاستقلال باسم الحرية مارس العبودية لقرون وأباد السكان الأصليين من الهنود الحُمر وخاض حروباً دموية و عدوان و احتلال في فيتنام ودمّر العراق تحت ذريعة “أسلحة الدمار الشامل” واحتل أفغانستان لعشرين عاماً ثم انسحب تاركاً وراءه الفوضى.

باسم الحرية أُسقطت حكومات و قادت انقلابات ودُعمت أنظمة قمعية وعُوقبت شعوب بأكملها بالعقوبات والتجويع ، واليوم يُعاد إنتاج هذا التناقض الأخلاقي في فلسطين حيث تُجرَّم المقاومة للشعوب المحتلة وتُمنَع الحماية عنهم وتُدفن المبادئ مع أجساد الأطفال تحت الأنقاض كما يحصل في الضفة و غزة .

إذا كانت الولايات المتحدة جادّة فعلاً في احترام القيم التي أسّست نفسها عليها فعليها أن تبدأ بإعادة النظر في سياستها تجاه فلسطين وأن تعترف بحق الفلسطيني في تقرير مصيره والعيش بكرامة وإقامة دولته على أرضه دون احتلال أو قيد.

أما أن ترفع شعار “الحريّة” في واشنطن وتُجهز على كل مظاهرها في القدس وغزة فذلك ليس فقط نفاقًا سياسيا بل خيانة صريحة لمبادئ وُلدت لتُحرر الإنسان لا لتُستعبد بها الشعوب.

بالطبع، إليك خاتمة أقوى تعبّر عن جوهر الرسالة الأخلاقية والسياسية التي تريد إيصالها، وتوسّع التركيز ليشمل فلسطين وكل الشعوب التي عانت من الازدواجية الأمريكية والهيمنة باسم “الحرية”:

إن الحرية التي تُستثنى منها فلسطين وتُحجب عن الشعوب المحتلة والمقهورة ليست حرية بل أداة انتقائية تُستخدم لتبرير السيطرة والهيمنة ، وحقوق الإنسان التي تُجزّأ حسب الهوية أو المصلحة الجيوسياسية ليست حقوقًا بل امتيازات تمنحها القوة وتمنعها ، أما إعلان الاستقلال الأمريكي الذي يتغنّى بالمساواة والكرامة والتمرد على الظلم فقد تحوّل في السياسة الأمريكية إلى قناع جميل يغطي وجهاً استعمارياً قبيحاً.

فلسطين مثل فيتنام والعراق وأفغانستان ودول كثيرة أخرى كانت شاهدة على هذا الانفصام المريع بين الشعارات والممارسات ، وما لم تتوقف أمريكا عن رعاية الاحتلالات وتكفّ عن حماية المجرمين الاسرائيليين وتواجه حقيقتها كقوة عالمية تمارس الانتقائية الأخلاقية فإن كل ما كُتب في 1776 سيظل مجرّد حبر على ورق — نصاً جميلاً لكنه منافق في الواقع ومجروح في ضميره الإنساني.

العدالة لا تتجزأ والحرية إمّا أن تكون شاملة… أو لا تكون.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.