كيف مرّ كل هذا الوقت في الحرب؟!
مقالات

كيف مرّ كل هذا الوقت في الحرب؟!

فوجئت قبل يومين أن صديقتي المقرّبة أحيت الذكرى الأولى لرحيل ولدها الأليم، فيما لا تزال رحى الحرب تدور بلا هوادة في غزة، وحيث ضاق الحال بعائلة صديقتي مثلها مثل آلاف العائلات التي أنهكتها الحرب وتبعاتها.

وكلما أوغلت الأيام بالزيادة وأصبحت شهوراً، كان الألم والمعاناة أكثر، فقد بلغ صديقتي خبر موت ابنها البكر الشاب وهي نازحة في وسط قطاع غزة، فيما قضى ابنها في شمال القطاع، وحال تقسيمُ القطاع ومَنْع وصول النازحين إلى ما بعد وادي غزة شمالاً، دون أن تتمكن من إلقاء النظرة الأخيرة على فلذة كبدها، وقد ووري الثري من قبل رفاق وأصحاب قلّة، حتى إذا ما تم توقيع الهدنة في مطلع كانون الثاني الماضي، أسرعت لزيارة قبره والبكاء فوقه، وكأنه رحل يومها.

لا أصدق ان صديقتي أحيت ذكرى رحيل ابنها، وهي في مدينة غزة تعاني من القصف المستمر حولها، وأصوات الانفجارات تدوي وتصمّ أذنيها وتؤرق ليلها، بينما تضيق ساعات نهارها حيث لا تفعل شيئاً سوى أن تحصي الوقت الذي أصبح دائراً بعقربين من دم ونار، وفيما تقطعت سبل العيش أكثر وأكثر وأصبح الحصول على رغيف الخبز صعباً، أما استخدام الطرق البدائية في غسل الملابس وطهي الطعام فهذه مشاكل أخرى، وأوجه صعبة من المعاناة التي تثقل قلب صديقتي وهي تعد الأيام وتكمل عاماً كاملاً على رحيل ابنها، وتكتب ذلك على حوائطها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولا شيء تغيّر بحالها سوى للأسوأ، خاصة أن الحرب قد طالت لدرجة أن الآباء والأمهات الثكالى باتوا يحيون الذكرى الأولى لرحيل أولادهم ورائحة الموت حولهم، ورحى الحرب ومنجله لا يزالان يدوران، حتى أنك قد تتخيل وتتوقع إن أحييت ذكرى عزيزاً اليوم، قد تكون أنت المفقود بعد ساعة أو في اليوم التالي.

كيف مرّ كل هذا الوقت ولم تستطع صديقتي أن تحصل على خبز بلا تعب، كما كانت تفعل سابقاً، حيث تعرّج على المخبز القريب من مدرستها عند عودتها ظهراً إلى بيتها فتبتاع الخبز الطازج الشهي الساخن، وما أن تصل إلى البيت حتى تدير الغسالة الكهربائية، وترفع الطعام على الموقد الذي يعمل بالغاز المنزلي فينضج في أقل من ساعة، بينما يجتمع الأولاد جميعا مع الوالدين لتناول وجبة الغداء، قبل ان يخلد كل منهم لقيلولة قصيرة، وهكذا تمضي الحياة بلا تعب حقيقي، أما اليوم فصديقتي المثقلة بالحزن والوجع وألم وأنين الفقد، مثلها مثل آلاف أمهات غزة، فهي تعتصر كل مشاعرها وتربط عليها في خبايا القلب، كي تستطيع الاستمرار في الصمود من أجل من تبقى من الأولاد، فتشعل نار الحطب في موقد جانبي وتغسل الملابس بيديها فقط، وبماء قليل وبمسحوق غسيل صنع محلياً لا يفعل شيئاً سوى ان يتلف القماش، ويصيب أصابع يديها بأعراض جلدية مؤلمة وغريبة.

كيف مرّ كل هذا الوقت ونحن لم نتنفس الصعداء بعد، ولم نُفق من الكابوس، ولم نجلس في باحة البيت لنبكي، كيف مرّ كل هذا الوقت، ونحن لا نخاف أننا سنفقد ابناً آخر أو أننا قد نكون نحن أنفسنا الخبر العاجل القادم؟ فربما انتشلونا من تحت أنقاض بيت متصدع، وربما ابتلعت الأرض خيمتنا البالية، وفي النهاية نحن لا نجرؤ ان نحيي ذكرى العزيز الذي نكاد نغبطه إن رحل عن كل هذا البؤس والتشرد والخوف والموت البطيء.

كيف سكت العالم على أيام قاسية يعيشها الناس في غزة؟ كيف رأى العالم الدموع انهاراً في عيون الأمهات وسمع صرخات الفتيات الجميلات النحيلات، وأصم أذنيه عن نشيج الصغار الذين فقدوا أمهاتهم أو بُترت أطرافهم أو نالت منهم الحرب المجنونة بطريقة بشعة؟

ما اكثر وجوه الموت في غزة، وما أبشع ما تتركه آلات الموت أيضاً في نفوس واجسام اهل غزة.
كيف يمرّ الوقت، وأنت لا تعرف شيئاً سوى أنك ضعيف لدرجة لا توصف، فلا تستطيع أن تبكي أكثر، ولا أن تصمت طويلاً، ولا أن تتذكر، ما أصعب أن يمرّ الوقت وأنت لستَ قادراً حتى على أن تتذكر حبيباً راحلاً، لأن الخوف يُعربد في قلبك وروحك، وتعلم يقيناً ان كل لحظة من الوقت تمرّ هي لحظة من دم.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.