الفضاء الرقمي الساحة الأهم لهندسة الرأي العام وتثبيت الرواية الفلسطينية
مقالات

الفضاء الرقمي الساحة الأهم لهندسة الرأي العام وتثبيت الرواية الفلسطينية

في زمن تتوارى فيه بعض وسائل الإعلام التقليدية خلف حسابات الربح والخسارة، تقدمت منصات التواصل الاجتماعي لتتحول إلى جبهة رقمية فاعلة، يواجه الفلسطينيون عبرها ماكينة الإبادة والتهويد والمحو.

لقد شكّلت حرب الاحتلال على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023 محطة فارقة في معادلة الإعلام العالمي؛ إذ بدا واضحًا حجم الانحياز والتعتيم المقصود من قبل وسائل الإعلام على الصعيد الدولي، في مقابل صحوة عربية وعالمية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبحت الكلمة والصورة والفيديوهات القصيرة أدوات تنقل من خلالها الرواية الفلسطينية، وبرز الناشط الفلسطيني كمراسل ميداني، وصانع رأي، وشاهد على العصر، وفي زمن الإبادة الجماعية والمجاعة في المحافظات الجنوبية لفلسطين (قطاع غزة) يراود العالم سؤال، هل الفضاء الرقمي الساحة الأهم لهندسة الرأي العام وتثبيت الرواية الفلسطيينة؟

للإجابة على هذا السؤال، لا بد من العودة إلى عام 2021، حيث اندلعت شرارة المواجهة الرقمية من حي الشيخ جراح في القدس، حين انطلقت صرخات الأهالي من بين جدران بيوتهم المهددة بالتهجير، فتلقفتها منصات التواصل الاجتماعي، وتحولت إلى نداء عالمي للعدالة، وكانت تلك اللحظة بداية لوعي رقمي يتشكل ويكبر.

ومن القدس إلى غزة، حيث لم تكن مجازر مخيم جباليا في عام 2023 مجرد أرقام في تقارير الأخبار، بل صورًا دامية ومشاهد مفجعة نقلها الصحفيون والنشطاء لحظة بلحظة، لتكشف وجع الإنسان الفلسطيني الذي يرفض أن يُمحى من ذاكرة العالم.

وفي ظل شراسة حرب الإبادة الجماعية والمجاعة التي انتشرت، لم تقف القيادة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية مكتوفتي الأيدي، بل بادرتا إلى هندسة ردٍ وطني وإعلامي متماسك، يتكئ على الإرادة الشعبية ويستثمر قوة المنصات الرقمية، ونقلت المعركة إلى ساحات الرأي العام العالمي. وعملت على تشكيل لجان متعددة وغرف عمليات وطنية لمتابعة التوثيق الرقمي للجرائم، وتم إطلاق حملات إلكترونية عالمية بعدة لغات لفضح الجرائم المرتكبة.

كما طالبت القيادة الفلسطينية بمحاكمة الاحتلال على جرائمه باستخدام أركان الجريمة من أفعال ملموسة وأدلة رقمية موثّقة، وسعت إلى ملاحقة التواطؤ الرقمي من قبل منصات كبرى حجبت صوت الضحية وأتاحت المجال لخطاب التحريض والكراهية. لقد تحركت فلسطين رسميًا وشعبيًا، وأطلقت نداءً واضحًا للعالم: لسنا أرقامًا تُنسى، ولا صورًا عابرة، بل بشرٌ لهم حكايات وأحلام وأسماء، ومن حقهم أن يُسمَع صوتهم ويُرى وجعهم. كانت هذه القرارات ترجمة فعلية لفهم عميق بأن الوعي العالمي لا يُستعاد بالشعارات، بل بالحقائق الصادمة التي تُحاكي الضمير الإنساني.

بينما، توجّهت وزارة الخارجية والمغتربين والبعثات والسفارات الفلسطينية إلى نشر الرواية الفلسطينية بلغة إنسانية تلامس الضمير العالمي، وعملت على مخاطبة شعوب العالم من خلال تنظيم عدة فعاليات متعددة في عواصم العالم، والتواصل مع وسائل الإعلام والمؤثرين العالميين لتعزيز التضامن الدولي، وإصدار بيانات دورية بلغات متعددة، وتوثيق الجرائم والإبادة والمجاعة وما خلفته الحرب وعرضها أمام المجتمع الدولية في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدوليين.

وفي مواجهة سيل الدم والمجازر، لم تقف نقابة الصحفيين الفلسطينيين عاجزة، بل خاضت معركة الرواية بوعي نقابي ومسؤولية وطنية، عبر توثيق الجرائم التي استهدفت الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، وفضح السياسات الإسرائيلية القائمة على تكميم الصوت الفلسطيني. وبالشراكة مع الاتحاد الدولي للصحفيين، شكّلت النقابة جبهة مهنية صلبة، وضعت على عاتقها نقل معاناة الإعلاميين في غزة إلى المحافل الدولية، لا سيما في ظل استشهاد (220) صحفيًا خلال العدوان، في مشهد غير مسبوق عالميًا، وقد تم إعداد ملفات قانونية موثقة لتقديمها إلى المحكمة الجنائية الدولية، باعتبار استهداف الصحفيين جريمة حرب، ورسالة صريحة لإسكات صوت الحقيقة، وعملت النقابة، بتعاونها الدولي، في تحويل الجرائم المرتكبة للصحفيين إلى قضية رأي عام، وفي تثبيت الرواية الفلسطينية كحق لا يمكن شطبه.

لم تكن تلك جهودًا عشوائية، بل كانت جهود مشتركة بين القيادة والحكومة والمؤسسات والنقابات والاتحادات المحلية والدولية، تعكس وعيًا متزايدًا بأهمية الإعلام الرقمي كأداة للمواجهة، وتؤكد على ضرورة توحيد الجهود لبناء استراتيجية إعلامية وطنية قادرة على مواجهة التحديات الراهنة، وكانت ومازالت جزءًا من معركة وجود وهوية، خيضت بالكلمة والصورة كما خيضت بالصمود والتضحية.

وفي خضم العدوان الإسرائيلي، كان الإعلام الرسمي الفلسطيني أكثر من مجرد ناقل للأخبار؛ لقد مثّل نبض الدولة وصوتها الأخلاقي أمام العالم، ومن خلال الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ووكالة وفا، تم تسخير الموارد الرقمية والبشرية لتقديم رواية موثقة، إنسانية وعميقة، تُظهر حجم الكارثة التي يعيشها شعبٌ يواجه الإبادة على مرأى من العالم. وباستخدام تقنيات النشر الرقمي الفوري، وتوفير المحتوى بلغات متعددة، نجح الإعلام الرسمي في كسر الحصار المعلوماتي، ووصلت رسائله إلى ملايين المتابعين عبر منصات التواصل الاجتماعي، رغم محاولات التشويش والإغلاق. لم يكن هذا الدور تقليديًا، بل كان جزءًا من معركة بقاء، ارتبطت فيها المهنية الإعلامية بالواجب الوطني، فصار كل تقرير وشهادة ومقطع فيديو بمثابة صرخة في وجه الصمت، وسلاح رقمي يواجه محو الذاكرة الفلسطينية.
وفي أواخر شهر أيار 2025م، وفي مشهد لا يُنسى، خرجت أم أحمد البريم تبكي بحرقة، منهكة من النزوح المتكرر، مثقلة بألم الفقد وانعدام الأمان، صارخة بصوتها الذي اخترق الشاشات: "نحنا بشر، ما بدنا أكل، بدنا الحرب توقف"، صدى تلك الكلمات لم يكن مجرد رجاء، بل صرخة ضمير هزت وجدان الملايين، وفضحت صمت العالم.

وما زاد من قسوة المشهد، وبعد أيام من صرخة الأم الفلسطينية، جاءت مجزرة عائلة دكتورة الأطفال آلاء النجار، وكانت تُداوي جراح أطفال غزة في المستشفى، لتصطدم بجراحها الشخصية حين استُشهد أطفالها الـ (9) جميعًا في قصف وحشي. أكملت علاج الجرحى وهي تتحمل ما لا يُطاق، ثم احتضنت أجساد فلذات كبدها في مشهد مؤلم لا يُمحى من الذاكرة الإنسانية. مشهد اختصر الإبادة، وصنع من الفضاء الرقمي مرآةً تعكس وجه الجريمة.
في تلك اللحظات، تحولت الساحة الرقمية إلى ميدان مواجهة حقيقي شكل معركة على الوعي والضمير، فبينما كانت آلة الحرب تقصف المنازل فوق رؤوس ساكنيها، كانت ملايين الصور والمقاطع تنقل الحقيقة إلى كل بيت في هذا العالم، وتُعرّي الاحتلال أمام الرأي العام العالمي.

لقد كانت الإبادة في غزة أكثر من حرب عسكرية؛ كانت حربًا إعلامية ونفسية تستهدف الإنسان الفلسطيني في وجوده وروايته، لكن الفلسطينيين، بحسهم الفطري وإيمانهم العميق بقضيتهم، لم يصمتوا، فقد حملوا كاميرات هواتفهم ليوثقوا أركان الجريمة في مشهد حي، وواجهوا الحجب الرقمي كما يواجهون القصف، وبدعم من نشطاء ومؤثرين حول العالم، أعادوا صياغة سردية الرواية الفلسطينية، بعد أن خذلتهم منصات إعلامية عالمية تدّعي الحياد.
والنتائج كانت استثنائية، فقد تم نشر أكثر من (11 مليون) منشور عن فلسطين والمحافظات الجنوبية (قطاع غزة) خلال شهرٍ واحد فقط بعد بدء العدوان، ووُثقت أكثر من (43 مليون) تفاعُل رقمي عالمي على الوسم (#Gaza)، ومحتوى فلسطيني بلغ مئات الملايين من المشاهدات، رغم الحصار، وقطع الإنترنت.

بهذا، تكون الدولة الفلسطينية – رسميًا وشعبيًا – قد نجحت في هندسة وعي العالم رقميًا، وحولت الألم إلى وعي، والدم إلى رسالة، والوجع إلى طاقة مقاومة تتجاوز الدول والجغرافيا.
لكن، كل ذلك لم يكن بلا ثمن، لقد واجه الفلسطينيون أشكالًا متعددة من الرقابة الرقمية والانتهاكات، فقد تم حذف منشورات وحسابات فلسطينية دون إنذار مسبق، وتقييد الوصول وتظليل الوسوم المتعلقة بفلسطين، وتواطؤ بعض المنصات مع رواية الاحتلال، وترويج روايات مضلّلة، بالإضافة إلى ضعف في تصنيف انتهاكات الاحتلال كجرائم كراهية أو إرهاب رقمي.

في المقابل، لم يكتفِ المناصرون الرقميون لفلسطين برد الفعل، بل بدأوا بصياغة مقاومة رقمية منظمة، شملت تدريب النشطاء على الأمن الرقمي وحماية المحتوى، وإطلاق حملات تضامن بلغات متعددة، واستخدام تطبيقات بديلة ومنصات لامركزية، وتشكيل مجموعات ضغط قانوني على شركات التكنولوجيا الكبرى، وتقديم بلاغات عن انتهاك الحقوق الرقمية. لقد أثبتت هذه التجربة أن الرواية الفلسطينية قادرة على كسر الحصار والرقابة متى ما توافرت الإرادة الجماعية والتنظيم الاستراتيجي، والعمل الجماعي المنظم.

وهنا يبرز سؤال مصيري: هل يمكن اعتبار وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الرقمي الساحة الأهم لهندسة الرأي العام المحلي والدولي في المرحلة المقبلة؟ وهل بات من الضروري وطنيًا تطوير استراتيجية إعلامية رقمية موحدة ترتكز إلى إنتاج محتوى رقمي ينتج بعدة لغات ويوثق الجرائم لحظة وقوعها بوسائل قانونية صالحة للاستخدام في المحاكم الدولية؟
إن المعركة الرقمية اليوم ليست ترفًا إعلاميًا، بل جبهة مركزية من جبهات الصراع الوجودي، تتطلب بناء تحالف وطني للمقاومة الرقمية، يضم المؤسسات الإعلامية، ومراكز حقوق الإنسان، وخبراء القانون والتقنية، ويعمل على رصد الانتهاكات بانتظام، وفضح خوارزميات التمييز، وإطلاق حملات عالمية لمقاطعة المنصات المتواطئة، والضغط باتجاه ميثاق دولي يحترم حق الشعوب في التعبير من خلال العالم الرقمي دون قيود. إنها المعركة على الذاكرة والوعي، وعلى صورة فلسطين في وجدان العالم.

لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد منصات للتعبير، بل تحوّلت إلى جبهة رقمية حقيقية يخوض الفلسطينيون عبرها معركة الرواية والوجود. فمن خلالها يرفعون أصواتهم، ويوثقون جرائم الاحتلال، ويُعيدون تشكيل وعي العالم تجاه قضيتهم، وإن ما يُنتجه الفلسطينيون من محتوى رقمي – بالصورة والكلمة والفيديو – بات شهادة حيّة على الحقيقة، وسلاحًا فعالًا في وجه التضليل والكذب، وجسرًا يصل شعوب العالم برسالة الحق والحرية والعدالة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.