لا يُعلّمُ المعلّم وهو جائع!
رئيس التحرير

لا يُعلّمُ المعلّم وهو جائع!

كتب رئيس التحرير: عُرف عن السلف قولهم "لا يقضي القاضي وهو جائع"، خوف الغضب الذي يولّده الجوع، وخوف أن يتشتت انتباه القاضي فينصرف للتفكير ببطنه، بدل التفكير بالمسألة التي تطرح عليه.

في الشأن الفلسطيني حالياً، وملف إضراب المعلمين نستحضر المقولة السالفة لنسقطها على المعلمين، فهل يجوز أن يُعلّم المعلم وهو جائع؟ هل يستطيع أستاذ المدرسة أن يعلم جيلاً وباله مشغول بتوفير علبة الحليب لطفله، وربطة الخبز لأولاده وعائلته!

وضَعَ المعلمون كما جميع موظفي الدولة في فلسطين على بطونهم كومة أحجار حتى لا تُصدر أمعاؤهم صوت الجوع، فصبروا ووقفوا لجانب حكومتهم كما لم يقف أحد، قبلوا بأنصاف الرواتب وتوقف العلاوات والترقيات والدرجات وهم يعلمون أنها لن تعود بأثر رجعي، باختصار، لقد حملوا الهم مع الحكومة إن لم يكن أكثر منها.

بعد 5 أشهر عجاف (ولا يزال الوضع مرشحاً لأن يطول)، ينتظر المعلمون وموظفو الدولة تقديراً واحتراماً ولفتة من حكومتهم، ينتظرون طبطبة على أكتافهم التي حملت ما لم يحمله أحد، ينتظرون "الكلام الزين" ليسد "في الدَّيْن"، لكن ذلك لم يحدث، ولم تنطق الحكومة في بياناتها الأسبوعية بما يرضي قلوب الموظفين!

لم تتخذ الحكومة أي إجراءات للتخفيف عن موظفيها، لم تؤجل دفع فواتير الكهرباء والمياه وغيرها من الفواتير بضمان رواتبهم المتأخرة وضمان الحكومة، لم تقم بإصدار قرار بدوام كل موظف في مكان سكنه للتخفيف من نفقات المواصلات، لم تضع الحكومة جسد الموظف المتهالك على جهاز التنفس، وتركته يصارع وباء الفقر الذي هو أشد من وباء كورونا.

المعلمون بدورهم، أعلنوا بشكل جماعي الإضراب عن العمل بسبب عجزهم عن الاستمرار بالعمل، فهم لم يجدوا في جيوبهم ما ينفقون به على المواصلات من بيوتهم إلى مدارسهم وبالعكس! فوصل الإضراب ببعض المحافظات إلى 90%.

الحكومة التي لم تفطن لمواساة المعلمين والموظفين والتخفيف عنهم، فطنت للتلويح بعقوبات لم تصل للاعتقال والتقاعد القسري أو حتى الإنذارات كما الحكومة السابقة، لكن المعلم يشعر انه لا زال تحت التهديد، فيما يغيب الحوار عن المشهد.

في كل بيتٍ معلم، أو قريبِ معلم، ما يعني أن صوت الشارع هو صوت المعلم، هذا الصوت آزر المعلمين وشد على أيديهم لإيمانه بأن من حق المعلم أن يعيش حياة طبيعية، وبالحد الأدنى أن تقف الحكومة لجانبه بما تستطيع (في الأزمات)، لكن صوتاً آخر أبدى ملاحظته على إضراب المعلمين، مبررين ذلك بتخوفهم من أن يدفع هذا الإضراب إلى الضغط على القيادة للتراجع عن قرارتها بشأن مواجهة قرار الحصار المالي وقرار الضم و صفقة القرن اضافة للضغوط الامريكية الاسرائيلية وكذلك العربية التي لم تنفذ شبكة الامان وأوقفت المساعدات لفلسطين بل واعلنت اتفاقيات للتطبيع مع الاحتلال مما شكل طعنة للصمود الفلسطيني وزيادة حجم الضغوط على الفلسطينيين لصالح الإدارة الأمريكية والاحتلال.

لكن، هل يستطيع جندي أن ينخرط في معركة وهو جائع؟ لا.

انعدام الحوار بين قطاعات الشعب الفلسطيني وغياب الممثلين المنتخبين للنقابات جعل الفجوة كبيرة بين القيادة والشعب وهذا ما حذرنا منه في مقالات سابقة، وساهم في ضعف الجبهة الداخلية للشعب الفلسطيني أمام الأزمات الكبرى التي يتعرض لها سواء السياسية مثل صفقة القرن وقرار الضم والحصار المالي والقرصنة على أموال الشعب الفلسطيني إضافة لجائحة كورونا التي شلت الاقتصاد وحدت من حركة القيادات الفلسطينية، ولا بد ان نذكر ان خيارات الحكومة محدودة ولا يوجد لها مخرج سوى الصمود والتحدي و أهم ادواتها الجبهة الداخلية وموقفها الموحد.

رؤيتنا لحل الأزمة بداية هي استلام أموال المقاصة بالطريقة التي لا تفرض على الفلسطينيين تقديم تنازلات، ودفع المجتمع الدولي للتدخل في هذه المسألة، ولو كان استلام أموالنا سيتم عبر طرف ثالث، المهم أن لا يجوع شعبنا في ظل أزمة سياسية هي الأخطر منذ عقود.

أما بعد الحل الرئيسي، فإن على الحكومة فتح حوار أكثر جدية وشمولية مع إظهار تقدير لجيشها من الأمن والموظفين الذي أثبت ولاءه الكامل والكبير لقضاياه السياسية وعدم السماح لأي مسؤول بتكرار أوصاف واتهامات للمعلمين والموظفين في حال تعبيرهم عن أزماتهم باضرابات وفعاليات.

القضية الأهم هي تكليف وزارة العمل بإعادة إحياء الانتخابات والحياة الديمقراطية للاتحادات والنقابات وفق ما وقعت عليه فلسطين من اتفاقيات عربية ودولية لكي تساهم هذه النقابات والاتحادات في تحمل أعباء القرارات السياسية الوطنية وقيادة أعضائها وكذلك ممارسة الرقابة الشعبية على أداء الحكومة في ظل غياب المجلس التشريعي.

وطرح آخر هو أن تتخذ الحكومة خطوات للتخفيف عن الموظفين، بالحد الأدنى الفواتير بمختلف أنواعها، بضمان متأخرات الموظفين، حتى لا يطير نصف الراتب المصروف لهم على سداد تلك الفواتير!

للمعلمين نقول: الإضراب حق لكم كفله القانون ومطالبكم محقة، لكن من المهم الموازنة بين المطالب الشخصية وما يواجهه الوطن من أخطار، والنظر بعين الحقيقة لما هو ممكن وتستطيع الحكومة فعله وما هو مستحيل التنفيذ، بحيث يكون الخطاب أن من حق الموظف او المعلم غير القادر على توفير المواصلات الغياب لكن يستطيع القيام بالتعليم عن بُعد او الدوام بأقرب مدرسة لبيته وكذلك تعويض الطلاب، حتى هذا الخيار يحتاج لتدخل حكومي في توفير الانترنت لمنازل المعلمين العاجزين اصلا عن دفع الفواتير. وهنا تكمن صلابة الجبهة الداخلية في تخطي أزمة الحصار واستمرار صمود القيادة في مواجهة التحديات ويكون شعارنا "لا للجوع ولا للركوع ".