ليس السؤال: من يحكم غزّة؟ بل من يحكم المعنى؟
مقالات

ليس السؤال: من يحكم غزّة؟ بل من يحكم المعنى؟

ارتباطًا بالنقاش الذي أثاره الدكتور علي الجرباوي في مقاله "حكم غزّة"، أعتقد أنّ جوهر الأزمة، لا يكمن فيمن يحكم غزّة، بل في الإجابة على سؤال من يحكم المعنى؟ حيث تُعدّ القضيّة الإجرائيّة المرتبطة بالشكل الإداريّ، أمراً في غاية البساطة إن توفّرت الإرادة السياسيّة لدى أطراف المعادلة من أصحاب العلاقة؛ ولكن، لنتّفق أوّلاً من هم أصحاب العلاقة؟ خاصّة والدكتور على يشير إلى التدخّلات متعدّدة الجبهات والمشارب في هذا الشأن؛ أي أنّنا في ظلّ أزمة تعريف شرعيّة بالأساس، قبل أن تكون أزمة من يحكم القطاع.

أمّا، وقد طرحت في العنوان قضيّة المعنى، وكي لا يعتقد البعض أنّه مجرّد طرحٍ فلسفيّ لا يرتبط بالواقع؛ لنُحدّد ما المقصود بالمعنى، علّنا نصبح جميعًا على نفس سطر ما يُطرح من أفكار وتصوّرات؛ فإنّ المعنى المشار إليه يتعلّق بكامل تفاصيل المعركة التي لم تعد محصورة في ساحات "القتل" لا القتال، وإنّما في ميادين السرديّة والتأويل أيضًا؛ فمن يملك الحقّ، في تعريف ما حدث وما زال يحدث؟ أي ما هو تعريف الحدث على جبهة السرديّة؟ هل كانت "عمليّة عسكريّة ضدّ الإرهاب"، كما يريدها المستعمر أن تُرى؟ أم أنّها جريمة ضدّ الإنسانيّة وصلت حدّ الإبادة الجماعيّة في تعريفٍ واضح الملامح لجريمة الإبادة مكتملة الأركان، استهدفت ولا تزال تستهدف الإنسان قبل الأرض، والمعنى قبل الذاكرة؟

هكذا يصبح امتلاك المعنى أهمّ وأخطر حتى من السيطرة على الأرض، ببساطة لأنّ الأرض بلا معنى، هي مجرّد جغرافيا بلا تاريخ، فالمستعمر لا يسعى إلى محو غزّة من الخرائط السياسيّة وحسب، ولكن يجتهد لمحو كامل فلسطين من خرائط الوعي واللّغة والتاريخ؛ لذا، من المهم أن نتعامل مع القضيّة باعتبارها صراعًا على "المعنى" بوصفه الوجه الآخر للصراع على أحقّيّة الحياة، وعلى الوجود ذاته؛ فالمعنى هو من يمنح القضية هويتها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة بل والحضاريّة؛ وهو من يمكنه التمييز بين الضحيّة والجلّاد، الحقّ والباطل، مما يعني اختطافه، أو تزويقه، أو ازاحته، عمليّة إعادة صياغة أو برمجة للمفاهيم والتصوّرات بمعيار حقّ القوّة، وليس قوّة الحقّ.

إنّها مفارقة المعنى الذي وُظّف أداة استعماريّة حين سُمّيّت النكبة "حرب استقلال"، والهزيمة "نكسة"، والصراع العربيّ الإسرائيليّ بـ"المسألة الفلسطينيّة"، وتدعى الضفّة " يهودا والسامرة"، والعدوان على شعب أعزل، "حرب على الإرهاب"، وبه، أيّ المعنى، وصف شعب كامل بالحيوانات البشريّة؛ وعلى الرغم من ذلك، إنّها أيضا، مفارقة المعنى القادر على تسمية الأشياء بأسمائها، فلا يسمح بتحويل الإبادة إلى "دفاع عن النفس"، ولا يمكنه أن يمرّر تعريف الحدث باعتباره "نزاع داخليّ"، ويقف حائلاً دون تصدير معنى المقاومة على أنّها “إرهاب شعب ضد محتله"؛ إنّها للتأكيد، مفارقة المعنى الذي يعني امتلاكه، امتلاك الشعب الأصيل لرواية التاريخ، لا لرواية من يملك سلطة الجغرافيا؛ هكذا، يصبح سؤال 'من يحكم المعنى؟' هو السؤال الأدقّ، بوصفه سؤالاً مفصلياً لفهم أزمتنا الراهنة: هل نحن من نسمي واقعنا بما دفعناه من أثمان لا تقدّر طيلة قرن من الزّمن، أم أنّنا نعيش في فضاء تُفرض فيه المفاهيم علينا فرضاً، لنخسر مرّتين: مرّة في الميدان، ومرّة في التعريف؟

من أزمة المعنى إلى مأزق الوحدة

إنّ تأكيد الدكتور الجرباوي، على كون "ترتيبات مسألة هذا الحكم أصبحت أمراً أساسيًّا يفوق تقرير مستقبل القطاع، ليكون المدخل لتحديد مستقبل القضيّة الفلسطينيّة"، ينمّ عن حرص على حماية واحدة من أخطر القضايا التي يحاول المستعمر وأعوانه تصفيتها؛ وعليه ينشد مقال الدكتور الجرباوي، ضرورة تحديد موقف فلسطينيّ واضح ومحدّد، يمكنه أن يوحّد الخارطة الجغرافيّة والسياسيّة الفلسطينيّة؛ غير أنّ السؤال الذي يفرض نفسه: كيف يمكن أن نوحّد الموقف في بضعة أيام، وقد عُقدت لأجله عشرات لقاءات المصالحة من دون طائل؟ وما الذي سيوحّد جغرافيا لم تتوحّد قيادتها السياسيّة بعد؟ والسؤال الأهمّ على لسان الموجوعين، هل تدرك هذه القيادة أصلاً، ما معنى الوحدة في سياقها الحقيقيّ؛ أي وحدة الإنسان والهمّ والمصير، قبل أن تكون مجرّد وحدة على الورق أو في الخطابات؟

وإذا ما ذهبنا أبعد قليلًا، سنجد أنّ الحديث عن "إنهاء الحرب" لا ينفصل عن سؤال: هل جرّب من يتحدثون في قاعات المفاوضات أن يعيشوا الجوع كما يعيشه الناس؟ هل فكروا بغيرهم حقًّا كما أوصانا شاعرنا الراحل محمود درويش؟ كيف سيقتنع طفلٌ جائع منذ أشهر، بأن قيادته فكّرت فيه، أو أمٌّ تجرّعت مشاهدة ابنها يموت بين يديها، بأنّ ثمّة من شعر بوجعها؟ أيكفي أن نرفع الدعاء على العدو، ونردّد "حسبنا الله ونعم الوكيل"، من دون أن نُبادر بالفعل؟ ألم يأمرنا الله: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم"؟

إنّ المطلوب، قبل سؤال الحكم، هو الإجابة على سؤال الوعي، بأنّ الصراع في جوهره، لا يرتبط بهذه البقعة الجغرافيّة أو تلك، بل بحسم معنى الإبادة في محكمة العدل الدوليّة، والإرهاب في الأمم المتّحدة، وشرعيّة الوجود من البعد الإنسانيّ والأخلاقيّ؛ بذلك فقط يمكننا أن نؤسّس كجماعة تنتمى للجماعة البشريّة، لتطبيق ما يعرف بحقّ تقرير المصير، فإسرائيل وداعميها يحاولون فرض أجندتهم القائمة على شطب حقّ المقاومة من قاموس القانون الدوليّ في الحالة الشرق أوسطيّة على وجه التحديد، بل وعلى تغييب القانون نفسه، بينما يحاول الفلسطينيّون ومن خلفهم وأمامهم كلّ أحرار العالم، التأكيد على أنّ الحقوق لا تُمحى بالقوة، والذاكرة لا يلغيها التوحّش، ولا يمكن لأيّ عمليّة تسوية مفترضة، سواء في الشرق أو في غيره، أن تستقيم ما لم يعترف كلّ طرفٍ بحقّ الآخر في الوجود، وهو الاعتراف الذي سيحدّد معناه، إجابة سؤال من سيحكم المعنى، لا من سيحكم غزّة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.