
إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني
يتضوّر الناس في غزّة جوعًا حتى الموت، هذه المرّة الموت جوعًا ليس مجازًا، بل بالفعل يموت الطفل أمام أنظار من حوله وبين يدي أحد أبناء أسرته.
تحوّل كيس الطحين والرّغيف إلى معركة حياة أو موت، وعلبة الحليب إلى حلم، والماءُ النّظيف إلى ترف لا يناله إلا قلّة من الناس.
في ظلِّ حصار مُطبِق، تجاوز كلَّ المتعارف عليه في الأخلاق والقانون والعُرف السّماوي والأرضي، فقد باتت جريمة حرب معلنة، يمارسها احتلال همجي، يقودُه مطلوبٌ لمحكمة الجنايات الدولية.
لم تعرف البشرية شبيهًا لهذا الإجرام، بينما يُصاغ الآن مستقبل العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكذلك بين الفلسطينيين والعرب من جِهة أخرى.
هذا التّجويع حتى الموت، سيعيد تشكيل الوعي الفلسطيني، فما تفعله إسرائيل في قطاع غزّة يتجاوز الصراع التقليدي، الذي اعتاد عليه أطراف الصراع منذ تأسيس دولة إسرائيل، هذه لم تعد حربًا عسكرية تقليدية، تنتهي بقتلى وجرحى وأسرى وتدمير منشآت واحتلال أرض!
جريمة التجويع تعني أن إسرائيل لن تبقى هي نفسها التي كانت في المخيال الفلسطيني، فكثير من الفلسطينيين، ورغم كل ما حلّ بهم وبشعبهم قبل هذا، حملوا فكرة عن "العدو العاقل"، وكثيرًا ما ردّد مثقّفون فلسطينيون مقولة "عدوّ عاقل خير من صديق جاهل"، فالعدوّ العاقل يترك جسرًا أو خطّا للرّجعة، يعامل الأسرى بحسب القوانين الدولية، ويتجنّب القتل المقصود للمدنيين، وإذا حدث وقتل مدنيين، سرعان ما كان يبحث الأمر، ويظهر تعاطفًا ولو شكليًا مع الأبرياء.
العدوّ العاقل يقاتل، وفي الوقت ذاته يتحدّث عن رغبته في التّوصل إلى صيغة للعيش المشترك أو للتّعايش، هو كيان له أطماع في الأرض ويسعى لاحتلالها، ولكنه تحوّل إلى احتلال يبيد الإنسان بمنهجيّة وأمام أعين العالم.
لم يعد يقيم وزنًا لما يسمّى رأيًا عامًا دوليًا، ولا لعلاقات محتملة في المستقبل مع هذا الشّعب الذي يتعرّض للإبادة. لم يعد ذلك الكيان الذي يسوّق نفسه ككيان يدافع عن نفسه ويده ممدودة للسّلام. الآن يعلنها بوضوح أنّه كيان متطرّف جدًا ويسعى لإبادة الفلسطينيين، وتدمير كل من يحاول إعاقة مشروعه.
من عدوّ يفاوض بخبث، إلى عدوّ وجودي صريح لا يمارس سوى لغة الإبادة.
من طرف في صراع، إلى مجرم حرب موثّق بالدم والصُّور والخراب.
حتى الفلسطيني المُعتدل، الذي ما زال يؤمن بالتسوية، بات يهمس الآن: "أيّ سلام ممكن أن تصنعه مع من يُبيد الناس بالتجويع"!
أما ما لا يقلّ فتكًا بأهالي قطاع غزّة، فهو خذلان العرب.
"أين العرب؟" سؤال ردّده كثيرًا رجال ونساء وأطفال قطاع غزّة.
فبين حكومات اكتفت بالتصريحات الباردة، وأخرى أذعنت لعدم دخول المساعدات، وثالثة تسارع في مسارات التّطبيع، تسقط فكرة العروبة من قلوب الغزّيين.
هذا الحياد العربي، وخصوصًا الحياد المصري المتاخم للجائعين، هو جبن في أحسن الأحوال، وعار يحمله النظام المصري الذي مَنع حتى التضامن الدولي بأن يمرَّ بأرضه، هذا عار لن يُمحى خلال عقود، في الحقيقة هو تواطؤ يُضاف إلى الجُبن. هذا الموقف الجبان يجب أن يُسجّل للتاريخ، كي لا يزيّفه أحدٌ ويدّعي ما ليس فيه.
لقد نجحت الإبادة والتجويع في تشكيك الفلسطينيين بما كان يُسمى "العمق العربي"، فقد ظنّ الفلسطينيون، أو عاشوا وهمًا اسمه "العمق العربي"، الآن يتّضح أن كل هذا ليس سوى وهم، ولن يكون سوى وهمٍ طالما أن هذه الأنظمة تصل كراسيها عن طريق الانقلابات والغدر بعضها ببعض، وطالما أنّهم لا يصلونها إلا بإذن ودعم الأميركي والإسرائيلي.
في دخان الخذلان والجبن العربي، تظهر أهمية الحراكات العالمية، لتؤكّد أنّ العالم لا ينقسم بين عرب وأجانب، ولا بين مسلمين وغير مسلمين، ولا بين مؤمنين وغير مؤمنين!
فقد رأينا مُلحدين وأتباع ديانات مختلفة، يقاطعون الموانئ التي تنقل السّلاح لدولة الاحتلال، ورأينا في المقابل بلدانًا عربية ومسلمة تفتح موانئها للسّلاح الذي سيفتك بأطفال ونساء غزّة.
رأينا في شوارع المُدن الأوروبية ما لم نره في القاهرة والإسكندرية أو جِدّة والرياض وغيرها. رأينا حتى في أميركا نفسها تحرّكات شعبية، رأينا دولًا وأنظمة متحرّرة تلاحق مجرمي الحرب، وتجمع الأدلة لإدانتهم، في الوقت الذي تلتمس الأنظمة العربية لهم الأعذار وتتفاخر بثبات العلاقة معهم.
في ظل هذا الانهيار الأخلاقي، فإنّ الحديث عن "حل الدولتين" يبدو ساذجًا، والعودة إلى المفاوضات ضربًا من العبث، ولم تعد سوى ورقة صفراء ساقطة.
الناس لا يفكّرون اليوم في خرائط وتقسيمات وحدود دولة، بل في النجاة من المحرقة.
سيكون على العرب، وعلى مصر بشكل خاص، الملاصقة لقطاع غزّة، أن يجيبوا: "كيف تركتم الناس في قطاع غزّة يموتون جوعًا! كيف سمحتم للجوع أن يفتك بالناس، بينما المساعدات الأممية من شتّى بلدان العالم تقفُّ منتظرة بلا جدوى حتى التلف عند معابركم؟".

أين حركة فتح؟

القادم أسوأ إن بقيت المواقف على حالها

مرسوم الانتخابات والمأزق الفلسطيني: بين الحاجة للإصلاح ومخاطر الإقصاء

عن غزة: بين جوعها وتجويعها

التجويع وسيلة فتاكة للإبادة… والأولوية الفلسطينية للانقاذ ومنع التهجير

رد موظفي القطاع العام على مقال السيد سمير حليله بعنوان: “الزيادة في العلاوات: جوهر أزمة ال...

الإصلاح المطلوب منا.. دائما
