كلمة بحق ممثل الاتحاد الأوروبي سڤن كون فون بورغسدورف.. نموذج الدبلوماسي
مقالات

كلمة بحق ممثل الاتحاد الأوروبي سڤن كون فون بورغسدورف.. نموذج الدبلوماسي

هنا في فلسطين نعاصر الكثير من الدبلوماسيين, كثافة الحضور والغياب تتجلى في دبلوماسية الذهاب والإياب. كأستاذة متخصصة في حقل الدبلوماسية, أدرّس مساق الدبلوماسية ما بين النظرية والتطبيق لطلاب الدراسات العليا منذ سنوات عدة, نقدم النظريات, نسقطها على تجارب عملية, نستضيف الدبلوماسيين وندرك ان العمل الدبلوماسي يحتاج للكفاءات الملتزمة بالجوانب الإنسانية والمعارف الحقوقية والقانونية. الدبلوماسية تعاني من فجوة كبيرة ما بين النظرية والتطبيق, فأسس ومبادئ الدبلوماسية تقوم على القانون الدولي والقيم الإنسانية، وهذا ما يصطدم بالواقع البراغماتي الذي يقدم المصلحة ومبادئ القوة دون الالتفات لأي فضائل. 


من الطبيعي ان يستاء المواطن الفلسطيني من العمل الدبلوماسي وممثليه، فما نشهده من ظلم وجرائم وقهر تحت الاحتلال الإسرائيلي كفيل بفقدان الأمل بعالم عادل يكتفي بالتغني بحقوق الانسان وأهداف التنمية المستدامة والشرعية الدولية دون أي محاسبة للمجرمين. 


مقال اليوم عبارة عن شهادة بحق ممثل الاتحاد الأوروبي سڤن كون فون بورغسدورف الذي يغادر فلسطين هذا الشهر. تميز سڤن بلا منازع عن باقي الدبلوماسيين بشكل خاص، فهو ملتزم ذكي جدا وانسان صادق بالدرجة الأولى, بعد أكثر من ثلاثة عقود كدبلوماسي في الاتحاد الأوروبي، قدم لنا هذا الدبلوماسي عدة دروس أهمها ان لا شيء أكثر نبلا، ولا شيء أكثر كرامة من الخدمة والاخلاص لمبادئ السلام واحترام حقوق الإنسان وقول الحق وتعزيز الديمقراطية وسيادة القانون الدولي والازدهار الاقتصادي لتحقيق حلم السلام.


علمنا سڤن على لسان الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط منذ أكثر من 200 عام أن الديمقراطيات لا تقاتل بعضها البعض. ومن هنا ومن أجل السلام، يجب أن تقف الديمقراطيات معا، وهذه رسالة للأنظمة العالمية التي تتغنى بالديموقراطية!
لقد عمل سڤن بتفانٍ لكسب قلوب وعقول الناس من غزة والضفة بالدفاع عن حقوقهم، وخاصة أولئك الذين يعانون من الفقر والظلم والقهر. سطر سڤن مثالا رائدا للدبلوماسية الرسمية والعامة، فجعل التواصل مع الناس ساحة معركة، حيث كثف وجوده على الأرض مما انعكس على وسائل التواصل الاجتماعي. كان الأكثر انخراطا في معركة الروايات, فكما يقول المفكر جوزيف ناي "الفائز اليوم ليس الفائز في المعارك وساحات القتال, اليوم الفائز هو من تفوز روايته بالوصول لقلوب وعقول الناس".


لقد جسد سڤن مثالا للدبلوماسي الناجح الذي يقول الحقيقة للسلطات المعتمدة له دون الإساءة إليها، ولكن بنفس الوقت يقول الحقيقة لسلطاته في دولته الأم مع المخاطرة بإغضابها أحيانا. وهذا ما يعاني منه الدبلوماسيون أمثال سڤن في ظل ديمقراطيات مزدوجة المعايير. 


سڤن لم يكن الدبلوماسي التقليدي الذي يتناسب مع الوصف الكلاسيكي للدبلوماسي الذي يقول نعم عندما يعني ربما، ويقول ربما عندما يعني لا، وعندما يقول لا فهو ليس دبلوماسيا. سڤن مثل الدبلوماسي المكلف بتنفيذ سياسات وقرارات الجهة التي يمثل, فرسم صورة جميلة وحضارية للاتحاد الأوروبي وقد حاول تكرارا توجيه الاتحاد بالتأثير على  العاصمة بروكسل وقاد دول الاتحاد مجتمعة وقدم تغذية راجعة وتقارير دورية عن حقيقة الاحتلال والواقع الظالم أملا في التأثير في القرارات وصنع السياسات التي تتماشى مع العدالة وحقوق الانسان التي يتغنى بها الاتحاد الاوروبي. لقد مزج سڤن بفن ودهاء بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة, لقد وجد التوازن الصحيح في واقع ابعد ما يكون عن الطبيعة الحضارية في القرن الواحد والعشرين بسبب الاحتلال الإسرائيلي طويل الأمد.


في هذا العالم النيو ليبرالي الذي يدور حول المصالح والنفاق الدولي ويثير الشكوك حول دور ومفهوم الدبلوماسية, أكتب هذا المقال لأقول لممثل الاتحاد الأوروبي الذي ينهي مهامه هذا الشهر انه نشر الأمل ومنحنا الإلهام في ان نكون واقعيين ثابتين صامدين على الأرض ولا تفقد الأمل أبدا في العمل الدبلوماسي. 


اسمحوا لي أن أختتم باقتباس ما قاله سفن قبل أسابيع مستلهما من مارتن لوثر كينغ، كتذكير بما يجب أن يسعى إليه الدبلوماسيون المعينون في فلسطين، حيث قدم نصيحة لكل دبلوماسي مفادها "اصنع مهنة إنسانية, التزم بالنضال النبيل من أجل المساواة في الحقوق, اصنع شخصا أفضل من نفسك، وأمة أعظم في بلدك، وعالما أرقى للعيش فيه".
باسمي وباسم كل من عرف سڤن من القطاع العام والخاص, من قطاع غزة للقدس لجنين لحوارة لسنجل لكل مدينة ومخيم, أقول: شكرا سڤن, ستكون دائما حاضرا كنموذج ومثال حي للدبلوماسي الحقيقي الذي يعيش الواقع, يتطلع للمستقبل, ويزرع الأمل دون أي استسلام.  

- دلال عريقات: أستاذة الدبلوماسية والتخطيط الاستراتيجي, كلية الدراسات العليا, الجامعة العربية الأمريكية

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.