خيول لا تعود للحظيرة
مقالات

خيول لا تعود للحظيرة

لا أرتاح أبداً للأعمال الفنية التي تُستغل من أجل احتفال بمناسبة ما، أخاف على هذه الأعمال من طقسية وحدود وجمود وشعارات المناسبة، باعتبار أن الفنون خيول وحشية حرة وطازجة وغير قابلة للاستجواب، أو التفتيش، أو الترويض، هل نستطيع أن نقول لخيول الفنون: لا تبتعدي كثيراً في الركض؟ أو خففي من صهيلك، أو احترسي فثمة بحيرة أمامك، من يجرؤ على أن يطلب من خيل كهذا أن يعود إلى الحظيرة مبكراً لأن طعاماً ساخناً ينتظره؟
من يقدر على التلفظ بكلمة حظيرة أمامه أصلاً؟ تُركب الفنون في فلسطين كصهوات، ويتم سوقها كالنعاج إلى حظائر الأفكار المقننة والمدروسة؛ لتُنحر هناك شر نحر، وتُترك نازفة بهاءها وبريتها وحريتها،لا يبقى منها إلا اسمها الخارجي، أما هويتها الحقيقية فتُداس بأقدام المناسبة المجرمة.
لست بالطبع من الواقعين تحت ضغط «هستيريا» التحذير من أجندات الممولين وأهدافهم «المريبة» و«الخطيرة»، لا أوافق ولا أفهم تفكير المتورطين النزقين في ذهنية المؤامرة، الذين يرون في كل دعم أوروبي لمؤسساتنا، تخريباً لتراثنا وقيمنا ونهشاً لذاكرتنا الوطنية، أتحدث هنا عن المناسبات الوطنية والعالمية التي يتم الاحتفال بها باستخدام الفنون استخداماً مفرطاً في أنانيته ومحدوديته، ظالماً طبيعة الفنون ولغزهها وهويتها.
أمتعض وأستاء وأحزن، حين تأتيني دعوات للتحكيم في مسابقات للقصة القصيرة، أو الشعر، أو المسرح، أو الخاطرة، تشرف عليها وزارات الصحة والبيئة والتربية والزراعة.. الخ، يريدون من الطلاب أن يستغلوا هذه الفنون لإيصال رسالتهم التربوية، أو الصحية، أو البيئية، كأن الفنون رسالة ودلالة فقط، كأنها مطايا لأفكارهم ورسائلهم.
إنهم لا يدركون أن الفنون تمتلك وعيها الخاص، وأنساقها الفريدة التي تفترق عن أنساق الواقع ومنطقه، هذه المسابقات أقرؤها كمجزرة جمالية وإنسانية بحق المخيلة -الضحية وروح الاكتشاف والانجراف مع نهر الفن المجهول والهادر، وحرية التمدد واللعب باللغة والتفتت في الزمن والتركيب في الصورة عند طلابنا.
ما يؤلمني هنا هو أنني تورطت في التحكيم بعدد من المسابقات، آخرها كان عن «الفقر في فلسطين»، وأذهلني حجم الميل الى الغيبيات والنزعة الميلودرامية والاستسلام إلى القدر والمكتوب والحلم المتأجج بيوم قيامي قادم في كتابات طلابنا وطالباتنا، كما فوجئت بخلو نصوصهم من الطاقة والعمق والتنوع، فعوالمهم واحدة: مواجهة الفقر والموت تحت ضرباته، شخوصهم واحدة: أم، أب، إخوة، أخوات، عدو واحد: هو الفقر.
والخطاب واحد: التوسل إلى الله لنجدة الأسرة ومساعدة الأخوة الصغار.. الخ.
حدث كل ذلك ليس لأن طلابنا يفتقدون القدرة على الإفصاح عن مشاعرهم الخاصة بلغتهم وخطابهم، أو لأنهم عديمو الموهبة جمالياً، بل لأن الأسوار التي حُشروا داخلها هي التي أنتجت نصوصهم هذه بطابعها الخارجي والسطحي والاستعراضي المفتعل.
ما أود الوصول اليه هنا هو أن مناسبة النصوص أو عنوانها المفروض فرضاً على الطلاب، أوصل كتابات الطلاب إلى طريق مسدود ومكرر، وفرغ عالمهم الفني من الانكشاف على الهواجس والأحلام والهموم الأخرى، وضيق هامش مقاربة واكتشاف دغل الروح، الذي هو عنوان الفنون ومبتغاها وطريقها، وفوضاها الجميلة. كانوا يعرفون ماذا يراد منهم، لبوا النداء، وقعوا في مصيدة المناسبة وفخ الخطاب المسبق، شاركوا دون قصد في ذبح صدقهم الفني وإلغاء أحاسيسهم اليانعة العفوية.
هذه هي فنون المناسبات، وهذا خرابها.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.