الشركات السعودية تعيد هيكلة إنفاقها وسط استمرار الزخم الاستثماري
اقتصاد دولي

الشركات السعودية تعيد هيكلة إنفاقها وسط استمرار الزخم الاستثماري

صدى نيوز - تشهد الشركات السعودية المدرجة تحولاً هيكلياً في سياسات الإنفاق الاستثماري خلال النصف الأول من 2025، في ظل بيئة تمويل أكثر انضباطاً، في الوقت الذي تشير تقديرات إلى أن إجمالي صافي الإنفاق الرأسمالي للشركات سيظل مرتفعاً عند مستوياته الحالية البالغة 85 مليار دولار، وقد يتجاوز هذا المستوى إلى 95 مليار دولار سنوياً بعد عام، مدفوعاً بتوسعات في قطاعات الطاقة، والبنية التحتية، والتقنية، وسط تحول استراتيجي في نماذج التمويل والاستثمار.

وهناك توجه متزايد نحو مشاريع أصغر حجماً وأكثر مرونة، مدفوعة بإعادة تقييم استراتيجيات النمو والمخاطر. وأظهر الرصد أن الإنفاق الاستثماري تباين بين القطاعات، حيث واصلت بعض الشركات التوسع، بينما فضّلت أخرى ترشيد النفقات وتوجيهها نحو مشاريع ذات تدفقات نقدية أسرع.

ارتفاع متوقع في الإنفاق الرأسمالي

توقعت تقارير بحثية أن يظل الإنفاق الرأسمالي للشركات السعودية المدرجة عند مستويات مرتفعة خلال الأعوام المقبلة، مدفوعاً بتوسعات في قطاعات الطاقة، والبنية التحتية، والتقنية، وسط تحول استراتيجي في نماذج التمويل والاستثمار. 

قد يتراوح متوسط إجمالي الإنفاق الرأسمالي السنوي للشركات السعودية بين 85 و95 مليار دولار خلال الفترة الممتدة بين عامي 2025 و2027، مقارنة بنحو 85 مليار دولار في عام 2024، ما يعكس استمرار الزخم الاستثماري في السوق السعودية، وفق وكالة "إس آند بي غلوبال".

ويُتوقع أن تمثل الشركات التي تملكها كيانات تابعة للدولة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، نحو 90% من إجمالي هذا الإنفاق، بدعم من برامج مثل صندوق الاستثمارات العامة والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، والتي تركز على مشاريع ذات أثر اقتصادي مستدام، بحسب التقرير.

الطاقة والمرافق تقود الإنفاق.. والتمويل يتنوع

يشير تقرير آخر، صادر عن الوكالة ذاتها إلى أن القطاعات كثيفة الأصول مثل الطاقة والمرافق ستظل صاحبة الحصة الأكبر من الإنفاق الرأسمالي، في حين يُتوقع أن تواصل الشركات الكبرى في هذه القطاعات توسيع عملياتها بما يتماشى مع مستهدفات رؤية المملكة 2030. في المقابل، ستبقى مستويات الديون في قطاعات أقل كثافة بالأصول، مثل الصناعات التحويلية والخدمات الاستهلاكية، عند مستويات أدنى نسبياً.

كما يُنتظر أن تنمو القروض الممنوحة للشركات بنحو 60% خلال الفترة المقبلة، مع استمرار الشركات الكبرى في تمويل مشاريع البنية التحتية، المراكز اللوجستية، ومرافق الطاقة المتجددة.

الاتصالات.. الأكثر توسعاً خلال النصف الأول

قطاع الاتصالات كان بين أكثر القطاعات التي رفعت إنفاقها الاستثماري خلال الشهور الستة الأولى من العام الجاري، بدعم من مشاريع البنية التحتية الرقمية. شركة الاتصالات السعودية (stc) بلغ صافي نفقاتها الاستثمارية 9.5 مليار ريال مقابل 2.5 مليار ريال في الفترة المقابلة من 2024، كما رفعت شركة "اتحاد اتصالات" إنفاقها إلى مليار ريال خلال النصف الأول من هذا العام مقابل 295 مليون ريال قبل عام، مدفوعة بعمليات تطوير الممتلكات والمعدات في إطار خطط تحديث الشبكات.

بينما قلّصت "زين السعودية" إنفاقها إلى النصف تقريباً لتصل إلى 553 مليون ريال خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري، مقابل 1.1 مليار ريال خلال الفترة المقابلة، بعد تخفيض الإنفاق على شراء المعدات الجديدة.

تحول استراتيجي في قطاع البتروكيماويات

شهد قطاع البتروكيماويات تبايناً لافتاً في الإنفاق، إذ خفّضت "سابك" صافي النقد المستثمر إلى 2.5 مليار ريال، مقابل 5.4 مليار ريال قبل عام، بينما رفعت شركات مثل "ينساب" و"سبكيم" و"نماء" من استثماراتها لدعم الطاقة الإنتاجية وتحديث المعدات.

قال بندر الجعيد، أستاذ الإعلام الاقتصادي بجامعة الملك عبدالعزيز، إن الشركات تتجه نحو نموذج "المشاريع المتوسطة" بدلاً من "الاستثمارات العملاقة"، مدفوعة بارتفاع تكاليف الاقتراض وتغير ثقافة حوكمة الاستثمار. وأوضح أن متوسط حجم المشاريع انخفض بنحو 35%، في حين ارتفع عددها بنسبة 60% خلال عامين.

وتواجه الشركات ضغوطاً إضافية تتمثل في ارتفاع تكلفة التمويل نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة في البنوك من 3.2% إلى 6.8% خلال ثلاث سنوات، ما عزّز التوجه نحو مشاريع قابلة للتنفيذ خلال 18 إلى 24 شهراً، وفقاً للجعيد.

التحول بالاستثمارات في قطاع البتروكيماويات عزاه الجعيد أيضاً إلى تغير ثقافة حوكمة الشركات التي أصبحت مجالس إدارتها أكثر تشدداً في مراجعة مؤشرات العائد على الاستثمار وفترة استرداد رأس المال. كما ساهمت الضغوط التمويلية وارتفاع تكلفة الاقتراض عالمياً في ترسيخ هذا التوجه نحو مشاريع أصغر وأكثر مرونة.

الغذاء والعقار.. إنفاق انتقائي واستهداف الأمن الغذائي

ارتفع الإنفاق الاستثماري في قطاع الأغذية، جاء مدفوعاً بخطط الأمن الغذائي. "المراعي" رفعت صافي استثماراتها إلى 2.5 مليار ريال مقابل 247 مليون ريال في الفترة المماثلة، كما ضاعفت "صافولا" و"العثيم" من نفقاتها لمواكبة النمو المحلي.

وفي القطاع العقاري، تراجع التركيز على المدن الضخمة، لصالح مشاريع متخصصة مثل الإسكان الميسر والمجمعات الصناعية. "دار الأركان" رفعت إنفاقها إلى 136.5 مليون ريال مقابل 3.3 ملايين ريال فقط، في حين قفزت استثمارات "المجدية" إلى 119 مليون ريال من 7.9 ملايين ريال.

النقد المتاح يحد من الحاجة للتمويل بالدين

ما يدعم توسع الإنفاق الاستثماري لدى الشركات المدرجة في المملكة، هو تمتعها بمستويات مرتفعة من التدفقات النقدية الحرة، ما يعزز قدرتها على تمويل الاستثمار دون الحاجة إلى رفع معدلات الدين، أو الاعتماد الزائد على أدوات الدين العام. ويعني ذلك أن الجزء الأكبر من التمويل المتوقع سيتم من خلال الموارد الذاتية أو أدوات تمويل مختارة بعناية، بحسب "إس آند بي".

كما تعمل الشركات الكبرى على إعادة هيكلة قواعد التمويل، بالتنسيق مع مستثمرين عالميين لتوسيع قاعدة الداعمين، مع الحرص على تجنب المديونية المفرطة. ورغم بعض التحديات التمويلية، تبقى التوقعات إيجابية لجدوى العائدات الناتجة عن هذه الاستثمارات، لا سيما في القطاعات ذات النمو السريع، وفق الوكالة.

ووسط هذا يأتي الدعم الحكومي ليوفر منفذاً تمويلياً آخراً للشركات. برنامج "شريك" مول مشاريع بقيمة 30 مليار ريال خلال عامين، مع حصة لا تتجاوز 30% من إجمالي التمويل، ما يعكس تصاعد مساهمة القطاع الخاص. كما ضخّ "صندوق التنمية الوطني" تمويلات تجاوزت 70 مليار ريال خلال تلك الفترة مع اشتراطات أكثر صرامة ترتبط بالاستدامة والعائد الاقتصادي.

يقول محمد مكني، أستاذ الاقتصاد بجامعة الإمام محمد بن سعود، إن هذه التغيّرات لا تعكس تراجع الطموح بل "إعادة توازن بين المرونة والعائد"، مدفوعة بسياسات أكثر انتقائية وكفاءة في إدارة رأس المال.

نظرة إلى المستقبل: الثلاثي الذهبي يقود النمو

ويتوقع بندر الجعيد أن تقود قطاعات الاتصالات، والتقنية، والطاقة المتجددة موجة الإنفاق الاستثماري حتى 2027، مشيراً إلى أن الاستثمارات في الطاقة النظيفة قد تتجاوز 150 مليار ريال، فيما ترتفع استثمارات الترفيه والرياضة إلى 30 مليار ريال، بدعم من رؤية المملكة 2030.