
مصر بين ضغوط الداخل وتقلبات الخارج.. كيف تُعيد رسم خريطة الغاز؟
اقتصاد صدى- تعكف مصر حالياً على تنفيذ استراتيجية متعددة المحاور لتأمين احتياجاتها من الغاز الطبيعي، في ظل تراجع الإنتاج المحلي وزيادة الطلب، خاصة في قطاع الكهرباء والصناعة. وتشمل الخطة أربعة بدائل رئيسية تهدف إلى تقليل الاعتماد على مصادر بعينها، وهي: تسريع استقدام الغاز من قبرص، وتحفيز الإنتاج المحلي عبر الاكتشافات الجديدة، والتوسع في مصادر الطاقة المتجددة، بالإضافة إلى استيراد الغاز المسال رغم ارتفاع تكلفته.
يأتي ذلك في وقت سجلت فيه البلاد عجزاً قياسياً في الغاز. فخلال العام الماضي استهلكت مصر نحو 60 مليار متر مكعب من الغاز خلال 2024، فيما أنتجت 47.5 مليار متر مكعب، ما يعني أنها سجلت عجزاً بأكثر من 12 مليار متر مكعب، وفق بيانات معهد الطاقة وموقع رئاسة جمهورية مصر العربية.
في 2023 سجلت مصر عجزاً في الغاز بنحو 3 مليارات متر مكعب، بعد أن كانت سجلت فائضاً بنحو 4 مليارات متر معكب في 2022.
استيراد الغاز من قبرص وإسرائيل
وبحسب مسؤولين مصريين تحدثوا لـ"الشرق" في وقت سابق، تعمل الحكومة على ربط حقلي "كرونوس" و"أفروديت" القبرصيين بمرافق حقل "ظُهر"، بطاقة إجمالية تصل إلى 1.3 مليار قدم مكعب يومياً بحلول 2028، مع بدء استلام نحو 500 مليون قدم مكعب يومياً من حقل "كرونوس" قبل نهاية 2027. وسيُضخ جزء من هذه الكميات في الشبكة القومية، بينما يُخصص الباقي للتصدير.
وتستورد مصر حالياً أيضاً نحو 1.1 مليار قدم مكعب يومياً من الغاز عبر الأنابيب من إسرائيل، على أن ترتفع الكمية تدريجياً إلى 1.2 مليار قدم مكعب يومياً اعتباراً من يناير المقبل، بموجب اتفاق معدل بين الجانبين تم توقيعه في يوليو 2025، ويستمر حتى عام 2040. ويتضمن الاتفاق زيادة الكميات الإجمالية بنحو 4.6 تريليون قدم مكعب، مشروطة بتوسعة البنية التحتية.
الغاز المسال.. خيار مكلف لكنه ضروري
في الوقت نفسه، تعتزم مصر مواصلة استيراد الغاز الطبيعي المسال حتى العام المالي 2029-2030 لتأمين تشغيل محطات الكهرباء، في ظل انخفاض الإنتاج المحلي إلى نحو 4 مليارات قدم مكعب يومياً، مقارنة باحتياجات تصل إلى 6 مليارات قدم مكعب. وقد أبرمت الحكومة اتفاقات مع شركات عالمية من بينها "أرامكو السعودية" و"ترافيغورا" و"فيتول" لاستيراد نحو 290 شحنة من الغاز بين يوليو 2024 وعام 2028، وتجري مفاوضات مماثلة مع قطر لعقود طويلة الأجل.
مدحت يوسف، نائب رئيس هيئة البترول المصرية الأسبق، أشار في حديثه لـ"الشرق" إلى أن تكلفة استيراد الغاز المسال تتراوح بين 14 و15 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية، مقارنة بنحو 7 إلى 8 دولارات للغاز المنقول من إسرائيل عبر الأنابيب، ونحو 4 إلى 5 دولارات فقط للغاز المنتج محلياً. واعتبر يوسف أن الغاز الإسرائيلي حالياً هو الخيار الأقل تكلفة نسبياً، لكنه شدد على ضرورة عدم الاعتماد عليه كمصدر وحيد.
وأوضح يوسف أن مصر بانتظار الإعلان عن تفاصيل الاتفاق التجاري مع قبرص لتقييم الجدوى الاقتصادية، مشدداً على أن المسألة "اقتصادية في الأساس، وليست سياسية"، وأن تنويع المصادر هو الضامن الأساسي لأمن الطاقة.
وتستخدم مصر حالياً ثلاث سفن تغييز عائمة بطاقة إجمالية تبلغ 2.25 مليار قدم مكعب يومياً، في حين تعمل سفينة رابعة من ميناء العقبة، وتنتظر وصول سفينة خامسة إلى ميناء دمياط. وتُعد هذه السفن عنصراً استراتيجياً في تأمين الإمدادات، حيث توفر مرونة في حال تعطل التدفقات من أي من الشركاء.
وزير البترول المصري الأسبق، أسامة كمال، قال إن السفن العائمة تمثل خط أمان حيوي لقطاع الطاقة، موضحاً أن أي انقطاع محتمل في الإمدادات يمكن تعويضه سريعاً من خلال الغاز المسال. وأضاف أن مصر تشجع الشركاء الأجانب على زيادة الإنتاج المحلي، وتوقّع اتفاقات جديدة مع الجانب القبرصي.
طريق العودة إلى التصدير يبدأ بسداد المتأخرات
يُتوقع أن تتمكن مصر من العودة كمٌصدّر للغاز الطبيعي في 2027، وفق تصريحات سابقة لرئيس الوزراء مصطفى مدبولي. وقال هذا الأسبوع إنه المتوقع أن يصل إنتاج الغاز في مصر إلى 6.6 مليار قدم مكعب يومياً بحلول عام 2027 مقارنة بإنتاج حالي يبلغ 4.1 مليار.
وبدأ معدل إنتاج الغاز في الزيادة من مستوى 3.2 مليار قدم مكعب، بعد أن بدأت البلاد في تسديد المستحقات والمديونيات للشركات الأجنبية، التي تراكمت أثناء أزمة الدولار في مصر.
وأقر مدبولي بذلك، وقال: "زيادة إنتاج الغاز بدأت بعد تسديد تلك المديونيات للشركاء الأجانب".
سددت مصر نحو مليار دولار من مستحقات شركات البترول الأجنبية في يوليو الماضي، ضمن خطة لتسوية المتأخرات. المبلغ المسدد، يرفع إجمالي مدفوعات مصر من المتأخرات لشركات النفط الأجنبية العاملة في مجال استكشاف واستخراج النفط والغاز، إلى 8.5 مليار دولار منذ يونيو الماضي 2024 وحتى الآن.
وتبلغ المستحقات الحالية 2.5 مليار دولار بعد سداد الدفعة الأحدث، وفق تصريحات سابقة لمسؤول.
جمال القليوبي، أستاذ هندسة البترول والطاقة، أشار إلى أن مصر تسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في أقرب وقت من خلال تشجيع الشركات الأجنبية على زيادة الإنتاج، كما أن التوسع في الطاقة المتجددة سيساهم في تقليل الضغط على الغاز الطبيعي. وقال لـ"الشرق" إن الاعتماد المتزايد على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح سيساعد في خفض استهلاك الغاز بمحطات الكهرباء.
وبحسب القليوبي، فإن مصر تستهدف أن تمثل الطاقة المتجددة 42% من إجمالي القدرة الكهربائية بحلول 2030، موزعة بواقع 22% للطاقة الشمسية، و14% لطاقة الرياح، و4% للمركزات الشمسية، و2% للطاقة المائية.
وأكد القليوبي أن تنويع مصادر الغاز مهم للغاية في ظل المتغيرات الإقليمية، قائلاً إن الاعتماد على مصدر واحد للإمدادات قد يُعرض البلاد لمخاطر، مشيراً إلى أن القاهرة تسعى لزيادة الشحنات من دول متعددة مثل قبرص وقطر، بالتوازي مع تعزيز الإنتاج المحلي، إلى جانب استمرار التعاون مع الشركاء الحاليين في المنطقة.
البنية التحتية ودور مصر الإقليمي
مصر تمتلك بنية تحتية متطورة لإعادة التصدير وتخزين الغاز، فعودة تشغيل محطات الإسالة بكامل طاقتها يعزز قدرة البلاد على التفاعل مع متغيرات السوق، وفق وفاء علي، أستاذ اقتصاد الطاقة. وأشارت إلى أن "وجود محطات الإسالة يمنح القاهرة ثِقلاً سياسياً واقتصادياً في منطقة شرق المتوسط".
ويُعتبر رئيس الوزراء بلاده كمركز إقليمي للطاقة بالمنطقة. وقال هذا الأسبوع: "لدينا بنية أساسية كبيرة من محطتي الإسالة في (إدكو) و(دمياط)".
ولفتت إلى أن لجوء مصر إلى استخدام السفن العائمة جاء نتيجة لانخفاض الإنتاج المحلي، وأن هذه الخطوة تمثل حلاً استراتيجياً يعزز قدرة البلاد على تجاوز التقلبات، سواء كانت فنية أو سياسية، مؤكدة أن استثمارات الغاز يجب أن تُبنى على قاعدة اقتصادية طويلة المدى.
بحسب بيانات بلومبرغ، ارتفعت فاتورة واردات الغاز المسال والمنتجات البترولية لمصر بنحو 60% في 2025 لتصل إلى 20 مليار دولار، مقارنة بـ12.5 مليار دولار في 2024، ما يعكس حجم الضغوط التي تواجهها البلاد.
عادت مصر إلى تصدير الغاز المسال في 2019 بعد سنوات من التوقف، بفضل الإنتاج من حقل "ظُهر" العملاق، لكنها تحولت مجدداً إلى مستورد صافٍ في 2024، بعد تراجع الإنتاج إلى ما دون 4 مليارات قدم مكعب يومياً، وهو أدنى مستوى منذ يوليو 2016.
عطية عطية، عميد كلية هندسة الطاقة والبيئة بالجامعة البريطانية في مصر، شدد على أهمية تنويع مصادر الاستيراد وعدم الاعتماد على طرف واحد، مشيراً إلى أن البلاد تتحمل أعباء مالية كبيرة لتوفير الغاز، لكنها تسعى للحفاظ على أمن الطاقة الوطني وتغطية احتياجات السوق المحلية.
وفي ظل ارتفاع درجات الحرارة وزيادة الاعتماد على أجهزة التكييف، وجدت القاهرة نفسها أمام خيار صعب: إما استمرار تصدير الغاز، أو ضمان تغذية محطات الكهرباء محلياً. وتُظهر التطورات الأخيرة أن الحكومة تميل إلى ترجيح كفة تأمين الاستهلاك المحلي على حساب الصادرات، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع الشركاء الإقليميين في مجال الطاقة.
تحليل السوق والخيارات الاستراتيجية
مشهد الغاز في مصر يجمله بشار الحلبي، محلل أسواق النفط والطاقة في "أرغس" (Argus). وقال لـ"الشرق" إن التحدي الأكبر أمام البلاد لا يكمن فقط في انخفاض الإنتاج، بل في هيكل التكاليف وتوزيع مصادر الإمداد". وأوضح أن "الغاز المنقول عبر الأنابيب، مثل الوارد من إسرائيل، يظل الأرخص مقارنة بالغاز المسال، لكن الإنتاج المحلي هو الخيار الأكثر استدامة اقتصادياً على المدى البعيد، إذا توفرت الاستثمارات".
واعتبر الحلبي أن استمرار الاعتماد على مصدر واحد يعرض الدولة لمخاطر سياسية واقتصادية، مشدداً على أن تنويع الشركاء ومصادر الغاز يجب أن يكون "مرتكزاً أساسياً في السياسة الطاقية"، خاصة في ظل المتغيرات الجيوسياسية في المنطقة.
وأشار إلى أن امتلاك مصر لوحدات تغييز عائمة يُعد "خط أمان حيوي" يعزز من مرونة البلاد في مواجهة أي طارئ في الإمدادات، ويمنح الحكومة مساحة من الوقت والخيارات دون الوقوع تحت ضغط التوريد الطارئ أو تقلبات السوق.
وأضاف الحلبي أن العودة إلى التصدير مشروطة ببيئة استثمارية مستقرة، قائلاً إن "خطوة تسديد مستحقات الشركات الأجنبية بدأت تؤتي ثمارها عبر تحفيز عمليات الاستكشاف وزيادة الإنتاج تدريجياً"، وهو ما يعزز فرص تحقيق الاكتفاء الذاتي والعودة إلى موقع المُصدِّر بحلول 2027.
وفيما يخص الطاقة المتجددة، شدد على أنها "ليست رفاهية مناخية بل أولوية اقتصادية"، كونها تساهم في تقليل استهلاك الغاز في الكهرباء، ما يسمح بتوجيه فائض الإنتاج نحو الصناعة أو التصدير.
المصدر: الشرق

أسعار النفط عند أعلى مستوى في أسبوع

طفرة عقارية غير مسبوقة في دبي ومخاوف من فقاعة جديدة

تقرير: منجم روبايا بين أطماع المتمردين وعيون المستثمرين

تراجع معدل التضخم في السعودية إلى أدنى مستوى في 5 أشهر خلال يوليو

اتفاقية التجارة الحرة الأفريقية: انطلاقة متعثرة واتساع بطيء

لليوم الثالث.. ارتفاع أسعار الذهب لـ3,370 دولاراً للأونصة

هبوط أسعار النفط لأدنى مستوياتها في شهرين وسط مخاوف من فائض المعروض
