
المقاصة وتكدس الشيكل.. أزمات تحركها السياسة لا المال
خاص اقتصاد صدى- في ظل التعقيدات المتراكمة في العلاقة الاقتصادية بين فلسطين وإسرائيل، تبرز أزمة المقاصة وتكدس الشيكل في البنوك العاملة بفلسطين ليس بوصفها تحديا ماليا فحسب، بل كقضية سياسية تستوجب تدخلا عاجلا من الجهات العليا في السلطة الفلسطينية.
تكييف الأزمة كقضية سياسية
على عكس ما يروج له البعض، لا يمكن حصر أزمة التكدس النقدي في البنوك العاملة في فلسطين ضمن الإطار المالي البحت، فهي ليست ناتجة عن خلل في عمل المصارف سواءً فيما يتعلق بتطبيق متطلبات العناية المهنية الواجبة لمكافحة غسيل الأموال أو تطبيق سياسات التسعير واستيفاء عمولات لتغطية التكاليف التشغيلية ذات الصلة، بل تتجاوز ذلك إلى كونها أزمة سياسية تتطلب تدخل القيادة السياسية، ومجلس الوزراء، وسلطة النقد الفلسطينية لوضع حلول استراتيجية تُحاكي طبيعتها الحقيقية.
وفي هذا السياق، يجب أن يكون الهدف من هذه الحلول الاستراتيجية وطويلة الأمد هو توفير بدائل وقنوات عملية لهذه البنوك من أجل تسهيل قيامها بممارسة أعمالها المصرفية حسب المعايير المهنية التي تنظم عملها، خاصة فيما يتعلق بإدارة المراكز النقدية ولا سيما بعملة الشيكل، وبما يؤدي إلى قيام هذه البنوك بتلبية احتياجات عملائها من الشركات والتجار والمواطنين الأفراد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كافة هذه الأطراف تعمل ضمن بيئة اقتصادية معقدة ومضغوطة وذات ارتباط شبه كامل بما تفرضه السياسات الإسرائيلية على الأرض، وأهمها في هذا السياق سياسات وزارة المالية الإسرائيلية وبنك إسرائيل المركزي.
آليات التحويل من الشيكل إلى العملات الأجنبية
يفترض المواطن العادي أن التحويل من الشيكل إلى الدولار داخل البنوك العاملة بفلسطين يتم بشكل داخلي، إلا أن الواقع أكثر تعقيداً، إذ أن كل عملية تحويل لعملة أجنبية سواءً الشيكل أو الدولار أو الدينار أو اليورو، تُجبر البنك على شراء العملة المطلوبة من بنوك مراسلة خارجية إسرائيلية وإقليمية ودولية، ما يضع التزاما صارما على البنوك لتوفير أرصدة بنكية لدى البنوك المراسلة لتغطية هذه العمليات، الأمر الذي سيشكل خطرا مباشرا على المتانة المالية والسمعة المصرفية لهذه البنوك في حال عدم قدرتها على توفير الأرصدة الدائنة البنكية لتغطية هذه العمليات.
ومن هذا المنطلق، فإن إلزام البنوك بالحفاظ على مستوى رصيدها من هذه العملات الأجنبية يتطلب أن تقوم البنوك إما بشحن النقد المودع من العملاء والمتراكم لديها في خزانتها لتغذية حساباتها لدى البنوك المراسلة أو باقتراض هذه الأرصدة اللازمة من البنوك المراسلة من خلال عمليات السوق النقدي أو من خلال سلطة النقد الفلسطينية كجهة ملزمة بدعم احتياجات البنوك في هذا الصدد.
وهنا تتجلى مشكلة مركزية: البنوك بحاجة إلى أرصدة فعلية بنكية من هذه العملات الأجنبية لتلبية طلبات عملائها وخاصة لإتمام عمليات الاستيراد والتصدير، والتعامل مع البنوك المراسلة في إسرائيل وحول العالم، إلا أن تكدس الشيكل وانعدام القنوات المستقرة لتحويله من أرصدة نقدية في خزنات البنوك إلى أرصدة بنكية في حساباتها المصرفية يقيدان قدرة البنوك العاملة بفلسطين على بناء أرصدة بنكية كافية لتغطية هذه الطلبات، لا سيما أن العلاقة التجارية الثنائية مع إسرائيل تشكل بالمتوسط 60% على الأقل من حجم التجارة الخارجية الفلسطينية.
كما يجدر الاشارة هنا، إلى أن قيام عملاء البنوك بإيداع الأموال النقدية لدى البنك وقبول البنك لهذا الإيداع وظهور الرصيد متوفر في حساب العميل المصرفي، لا يعني بالضرورة أن هذا الرصيد تحول إلى رصيد بنكي مباشرة في حسابات البنك لدى البنوك المراسلة، وإنما يتطلب شحن هذه الأرصدة النقدية بشكل فعلي للبنوك المراسلة لتقوم بقيد قيمتها لأرصدة البنوك المصرفية، وهنا تتجلى مشكلة الايداعات النقدية بعملة الشيكل بشكل أساسي.
تراجع قدرة منظومة التغذية النقدية بعد 7 أكتوبر
قبل الأحداث الأمنية الأخيرة، كانت البنوك العاملة بفلسطين تعتمد على ثلاثة مصادر رئيسية للتغذية النقدية بالشيكل من البنك المركزي الإسرائيلي، المصدر الأول: شحن نقدي مباشر كل ثلاثة شهور بقيمة 4.5 مليار شيكل، وذلك حسب التفاهمات بين سلطة النقد الفلسطينية وبنك إسرائيل المركزي، وتُحول هذه الأموال إلى أرصدة البنوك العاملة بفلسطين لدى البنوك الإسرائيلية المراسلة والتي تمثل البنوك العاملة بفلسطين في عمليات المقاصة في النظام المصرفي الإسرائيلي، ومن خلال هذه المبالغ، تقوم البنوك العاملة بفلسطين بتنفيذ العمليات المصرفية حسب طلبات عملائها.
والمصدر الثاني: إيرادات المقاصة الشهرية بمعدل 800 مليون شيكل، والذي يرد للنظام المصرفي الفلسطيني عن طريق حوالات بنكية وليس نقدا، أما المصدر الثالث: أجور العمال الفلسطينيين في إسرائيل والتي تضيف شهريا ما بين مليار إلى 1.5 مليار شيكل والتي كانت ترد نقدا للاقتصاد الفلسطيني حتى بداية العام 2023 عندما تم الفرض من الجانب الإسرائيلي لدفع مستحقات العمالة الفلسطينية النظامية (غير المهربة) في إسرائيل من خلال الحسابات المصرفية، إلا أن جزءاً كبيراً من العمالة غير الرسمية (المهربة) بقي خارج هذه المنظومة وبقيت تتلقى أجورها بعملة الشيكل نقدا، ومع بداية الحرب في غزة توقف هذا المصدر بشكل شبه كامل أيضا بشقيه .
هذه التدفقات كانت تشكل ما مجموعه حوالي 10 مليارات شيكل كل ثلاثة شهور، أي ما يقارب 40 مليار شيكل سنويا، ولكن في الظروف الراهنة، توقفت معظم هذه القنوات، ولم يبقَ سوى الشحن النقدي المباشر، والذي لا يكفي لتلبية الاحتياجات الأساسية للتبادل التجاري، خاصة في ظل انحصار العلاقة التجارية المتبادلة في فلسطين لأكثر من 60% مع السوق الإسرائيلية كما أشرنا سابقاً. الأمر الذي أجبر بعض البنوك العاملة في السوق الفلسطينية إلى ايجاد وسائل بديلة ذات تكلفة عالية جدا لتوفير أرصدة الشيكل البنكية لضمان استمرار شريان الإمدادات الأساسية من السوق الإسرائيلية للسوق الفلسطيني كالكهرباء والماء والطحين والمحروقات، حيث وجدت هذه البنوك نفسها مضطرة للاقتراض من سلطة النقد الفلسطينية على أسعار وصلت إلى 4%، وأيضا الدخول في ترتيبات عقود تبادل عملات من السوق النقدي الدولي FX SWAPs مع البنوك المراسلة بتكلفة عالية لتوفير عملة الشيكل مقابل تبادل عملات أخرى مثل الدولار، مع العلم أن خزنات البنوك انفجرت من تكدس عملة الشيكل لديها، لكن هذه الأموال في الواقع لا قيمة لها طالما لم تُشحن للبنك المركزي الإسرائيلي ولم تحول إلى أرصدة بنكية في حسابات البنوك الفلسطينية لدى البنوك الإسرائيلية.
ومن الجدير ذكره أنه في السنوات الأخيرة، لم تبادر فلسطين إلى تعديل اتفاقية باريس، وذلك بالنظر إلى التحولات الاقتصادية التي طرأت، لا سيما فيما يتعلق بتغذية الشيكل في أرصدة حسابات البنوك العاملة بفلسطين لدى نظيرتها الإسرائيلية.
تبعية البنوك الفلسطينية وتأثيرها على التجارة البينية
يعتمد القطاع المصرفي الفلسطيني بشكل شبه كامل على النظام المصرفي الإسرائيلي فيما يخص الشيكل، العملة الأكثر تداولاً في السوق الفلسطينية، هذه التبعية تُضعف قدرة البنوك على تنويع مصادرها النقدية، وتعرضها لمخاطر اقتصادية حادة.
ومع تراجع أرصدة البنوك العاملة بفلسطين في النظام المصرفي في إسرائيل بسبب عدم انتظام عملية شحن عملة الشيكل للبنك المركزي الإسرائيلي، تجد البنوك العاملة بفلسطين نفسها كما ذكرنا سابقا مضطرة للاستدانة لتغطية نفقات استيراد سلع استراتيجية مثل القمح، الطاقة، الماء، المحروقات والخدمات الأساسية، وهو ما يؤثر سلبا على استقلالية القرار المالي الفلسطيني، ويزيد من هشاشة العلاقة التجارية البينية، هذا بالإضافة إلى الأمر المغيب حاليا ولكنه مهم جداً، وهو المتعلق بتجديد رسالة الضمان للبنوك المراسلة الإسرائيلية من وزارة المالية الإسرائيلية لاستمرار تقديمها لخدمات المراسلة للبنوك في فلسطين والتي تنتهي في شهر 11- 2025، والتي في حال عدم تجديدها ستؤدي إلى توقف تام في العلاقة المصرفية مع إسرائيل وليس فقط موضوع شحن النقد بعملة الشيكل.
أزمة الثقة في القطاع المصرفي المحلي
رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها البنوك العاملة في فلسطين خلال الأزمات المختلفة، من أزمة المقاصة إلى جائحة كورونا، وصولاً إلى الحرب الأخيرة، فإنها تواجه هجوما مجتمعيا وانتقادات لا تعكس الواقع الحقيقي. والمحير هو ترك البنوك وحدها في محاولة صد هذه الانتقادات واقناع الناس بأن المشكلة من الجانب الإسرائيلي وسط صمت رسمي فلسطيني غريب وغير مفهوم في الوقت الذي تمارس الحكومة الفلسطينية أقصى درجات الضغط على القطاع المصرفي شهريا من أجل الاستدانة لتغطية نفقاتها وتقف متفرجة لا حول لها ولا قوة تسمع وتراقب الهجوم على القطاع المصرفي الفلسطيني وكأن هذا القطاع يعمل في دولة مجاورة.
أقرأ أيضًا: القطاع المصرفي: عندما تتجاوز الحلول المؤقتة طاقتها.. ما الأثر الخفي من تأجيل الأقساط؟
ويعلق رئيس تحرير وكالة صدى نيوز بقوله: "هنا أتساءل، لماذا لم يصدر من الحكومة أو الوزارات المعنية التي تعلم وتعي حقيقة المشكلة أي توضيحات حول ما يجري؟ أليست هذه البنوك هي مؤسسات وطنية فلسطينة والعمود الفقري للاقتصاد الفلسطيني!".
فالمصارف لم تتوانَ عن لعب دورها الوطني في دعم صمود المجتمع، وليست عملية صرف الرواتب الحكومية الأخيرة ببعيدة، والتي تم توفيرها بشكل كامل من خلال تقديم هذه البنوك تمويلا يعادل 100% من قيمة آخر فاتورتي مقاصة تم احتجازهما من قبل الحكومة الإسرائيلية، لكن هذه البنوك اليوم تواجه تحديا مركبا بين إدارة السيولة المتكدسة وانعدام الخيارات المستقلة للتعامل مع الأسواق الخارجية، وفي نفس الوقت إدارة صورتها الإعلامية وعلامتها التجارية أمام المواطنين والتجار الغاضبين من غياب حل لهذه المشاكل.
لذا فإن هذه الأزمة تستدعي تحركا سياسيا عاجلا يعيد تشكيل العلاقة النقدية مع إسرائيل، ويضع استراتيجية مصرفية مستقلة تُمكّن البنوك العاملة بفلسطين من التعامل بثقة مع البنوك الدولية، فحل المشكلة يبدأ من الاعتراف بطبيعتها السياسية، لا المالية فقط، ومن دعم المصارف بدل تحميلها مسؤوليات لا تملك أدوات معالجتها وحدها فهي في النهاية مؤسسات تجارية ربحية وليست جهة حكومية تقع على عاتقها حل مشكلات سياسية.

محافظ سلطة النقد يبحث مع ممثلة استراليا تطورات القطاع المصرفي في فلسطين

تقرير عبري: إسرائيل تتسارع نحو هاوية سياسية واقتصادية

بسام زكارنة يدعو الموظفين للتسجيل في الجمعية التعاونية الاستهلاكية لتحسين ظروفهم المعيشية...

الإحصاء الفلسطيني: الإنتاج الصناعي يشهد انخفاضاً حاداً بنسبة 9.41% خلال 2025

أسعار صرف العملات مقابل الشيكل الثلاثاء (5 آب)

مستشار وزير الصناعة لصدى نيوز: إحلال المنتجات الفلسطينية عن المستوردات ضرورة وطنية تخلق فر...

هيئة تنظيم قطاع الاتصالات تعقد جلستها الـ20 وتناقش خططاً تنظيمية وتنفيذية للفترة المقبلة
