سورية: آن الأوان لإنهاء العشرية السوداء
مقالات

سورية: آن الأوان لإنهاء العشرية السوداء

لم يكن ينقص المشهد المحترق نفسه، إلا مشهد الحرائق في الشمال، خاصة في اللاذقية الجميلة وما حولها، حيث أتت النيران على آلاف الشجر، ووصلت ألسنة النيران البيوت، تلك النيران التي يصدف أنها تتم في وقت متقارب، تجعل إطفاءها صعباً.
لعل ألسنة اللهب هي دلالة بصرية وسمعية، تنادي لا بإطفاء النار فقط، بل بإطفاء الظمأ ونداء البيوت من كهرباء وغاز ومواد غذائية.
يكفي عقد من السنوات كان عقد شبه إبادة للبشر والشجر والحجر، للجمال والثقافة والآثار، للأمان و"هداة البال".
"عشرية سوداء" أخرى هنا وهناك؛ يجب وقفها ونواتجها، حتى لا تطل برأسها هنا أو هناك، فلا ضمانة ألا تفوح برائحتها الكريهة في أي بلد عربي آخر.
من أين نبدأ؛ فلم يعد البدء بالرثاء مفيداً لطفلة جائعة، أو خائفة؛ فكلا الأمرين صعب.
لو نضع الإرهاب على جانب اليوم، لنتحدث عن حالة الإفقار التي يعيشها الشعب السوري، والتي تندرج في حالة إفقار عربي عام لم يسلم منه أحد وإن كان بشكل متفاوت، سيتعمق لدينا الألم: الخبز والأمان، أيهما صار الأولوية!
السؤال نفسه يصير مؤذياً ومؤلماً؛ حين ننشغل بالخبز، مخففين من حالة الخوف، فلا يكون نتيجة الحروب إلا الفقر في كل شيء، حتى لكأن الإنسان يصحو باحثاً عن خلاص، خصوصاً فئة الشباب، الذين لم "يكوّنوا أنفسهم"، في حال هبوط قيمة العملة.
متلازمة الفقر والحرب؛ ما إن خف أصوات الرصاص، والدخان، حتى علا صوت الحالة الاقتصادية الصعبة؛ فصار المواطن في بلاده مشروع مسافر-مهاجر، كأن الناس هناك مهاجرون وهم في بيوتهم، وتلك مأساة فاقت وتفوق الهجرة التي تمت فعلاً.
لذلك، لا بد من العمل الآن، داخلياً في سورية نفسها، وخارجياً عربياً ودولياً، لمحاصرة إرهاب الفقر نفسه، لتثبيت الناس، بل ومنح الفرصة لمن يود الرجوع.
لم يشك الشعب السوري النشط يوماً من الفقر، حتى من هاجر خارج وطنه، استطاع في فترة قصيرة البقاء، لما يملكه الإنسان السوري من مواهب في البقاء، منها التجارة، وتحمل العمل الصعب.
بالرغم مما صاحب الانفتاح (والذي لم يسلم منه السوريون رغم تحفظهم تجاهه) فقد زادت التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية بشكل كبير بعد أن بدأت سياسات السوق الحرة في أواخر الثمانينيات، وازدادت تسارعاً في التسعينيات، إلا أن السوريين واصلوا وتكيفوا وبقوا، في ظل دعم الدولة للقطاع العام: الأمن الغذائي، والصحة والتعليم. صحيح أن هناك فئات استفادت أكثر من غيرها، في ظل التركيز على قطاع الخدمات، لكن الأمور سارت.
اليوم، في يد الحكومة أن تعدّل من سياساتها الاقتصادية، وتختار اقتصاداً لخدمة المجموع، من أجل البقاء، متذكرين معاً أن هناك من استغل التباين الاقتصادي بين الشعب، لإثارة الفتنة التي ما زال الشعب السوري يدفع ثمنها.
وكلنا نتذكر كيف وصل ذلك التباين الى عالم الدراما السورية، بما ذكرنا بما عبرت عنه الدراما المصرية عن الانفتاح الاقتصادي وآثاره المدمرة، التي قطفها الشعب المصري وذاق مرارتها، وصولاً للفتنة ونواتجها، والتي ما زلنا في الوطن العربي نقطف ثمارها، ولم نسلم هنا تحت الاحتلال من أثر سياسة السوق سيئة الذكر.
لم يكن ذلك غير مرئي، بل كان مرئياً، وكانت المسؤولية تقتضي تحسس النار تحت السطح، لكن للأسف، كان ما كان، ولم يحدث اختراق اقتصادي يحصّن الشعب ويقيه الفتنة، وإن بدأت ملامح إيجابية تظهر، لم يترك لها المجال للتطور، بسبب حالة الصراع هنا وما اقتضاه من تحالفات عجيبة وغريبة.
أما الدول الكبرى التي تتواصل مع سورية، كروسيا والصين والدول العربية التي يمكنها مدّ يد العون، استثماراً أو إقراضاً، فاليوم هو يومها، لإعادة الأمور الى ما كانت عليه، ويمكن تحقيق ذلك، في ظل أن الأرض السورية خصبة للزراعة والصناعة والتجارة والثقافة والفن والجمال.
وليس اكتشافاً هو من نعرفه جميعاً عن الثروات النفطية، والتي يمكن استثمارها لدعم قطاع الشباب بشكل مباشر، كونه يعاني من البطالة، كذلك فإن الزراعة "البلدية" السورية، يمكن أن ترفع من الدخل الاقتصادي للقرويين، لتخفيف الهجرة الى المدن في ظل الاستقرار الأمني.
مرة أخرى، من السهل التصدي لحالة الإفقار والتهجير إن صفت النوايا، وترك سورية كدولة وشعب عريق تلملم جراحها، وتبدأ من جديد، كأي شعب يصمم على الحياة.
يصادف اليوم، السابع عشر من تشرين الأول، اليوم العالمي للقضاء على الفقر، يتوجب على واضعي السياسات للحد من الفقر. وواضعو السياسات لا يقتصرون على الشأن الداخل للدول، بل هو النظام الاقتصادي الدولي.
فكما أن هناك ما يسمى بالمسؤولية الاجتماعية، تدفعه مختارة الشركات الكبرى، فإنه يجب أن تكون هناك المسؤولية الدولية الإنسانية، للتخفيف عن الشعوب جميعها، خصوصاً الشعب السوري.
لا بدّ من التاريخ والفلسفة وعلم النفس..علم نفس الفرد وعلم نفس الشعوب.
فلم يكد الاستقلال يتحقق عام 1946، حتى بدأت هموم أخرى، حيث يظهر أن الاستعمار لا يترك البلاد بخير بعد الجلاء الفرنسي. كما لا تصفو نوايا البشر دوما في التنازع على الحكم.
لقد مرت سورية بانقلابات منذ نهاية الأربعينيات؛ ومن المفارقات (وأقصد به تركيز الولايات المتحدة على الديمقراطية) أن الحكم الديمقراطي بعد الاستقلال انتهى بانقلاب بدعم من الولايات المتحدة في آذار 1949.
كانت نكبة فلسطين وحربها عام 1948، أي بعد التخلص من الاستعمار الفرنسي فقط بعامين، مجالا للتدخلات والعبث في الوضع السياسي في حقبتي الخمسينيات والستينيات، وصولا لمرحلة استقرار سياسي أوائل السبعينيات، وهنا، في ظل ما حدث ويحدث، صار من اللازم والأخلاقي، بل والواجب على الأخوة في سورية جميعا إعادة الاعتبار للشخصية السورية العربية المستندة للغني الحضاري، بعيداً عن الطائفية أو النزاعات السياسية التي لا تعبر عن الشعب. والبدء الفعلي بتأمل الحال أمس واليوم، لوأد أية فتنة ممكنة، عبر دراسة موضوعية غير منحازة للتاريخ السوري المعاصر من أجل الخلاص الوطني. والجلوس معاً دون شروط، فليس للسوري غير أهله أولاً، ومن بعد الأصدقاء.
"لا يحك جلدك مثل ظفرك، فتول أنت جميع أمرك"، بمعنى التركيز على العامل الذاتي في الأمن العام بما فيه الأمن الزراعي.
في ظل ذلك، سينشط الإنسان السوري كما كان يوماً، على جميع المستويات؛ ففي ظل ربط الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، والثقافية، سيكون من المهم والضروري لمنح الشباب فرصة القيادة، فهم الأكثر قدرة على تسيير شؤون البلاد والعباد، كونهم الأقل تعقيدا فكرياً وسياسياً.
وليكن كل ذلك في ظل ظروف تصالحية بعيدا عن الثأر وتصفية الحسابات اجتماعياً وسياسياً.
وليكن جواب أحدهم إن همس في أذنه هامس محرّض:
إنه أخي يا أخي!
أما نحن، فإن خلاصنا القومي والوطني-القطري واحد..فمتى نعي ذلك فعلاً؟

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.