آيفون 17 في خيمة غارقة: هندسة "الرفاهية المسمومة" في غزة
في خيمة غارقة بالوحل، يرتجف طفل فلسطيني يحاول عبثاً تدفئة أطرافه المتجمدة، بينما تمر في الخلفية نشرة أخبار تتحدث عن وصول شحنة "إلكترونيات حديثة" إلى القطاع؛ هذا المشهد ليس مجرد صدفة عابرة، بل هو تجسيدٌ حيٌّ لتناقضٍ مفتعل يختصر جوهر خديعة كبرى، فالمطر في غزة لم يعد ظاهرة طبيعية، بل تحول إلى كاشفٍ صادم لعجز تواطؤ النظام الدولي، وأداة قتل صامتة تُوظف ضمن حرب شاملة لا تبقي ولا تذر. إن هذا التناقض يقودنا مباشرة إلى ما يمكن تسميته "هندسة الحرمان"، حيث يقف المنع الممنهج لمعدات الإنقاذ والبناء كأحد أخطر أسلحة هذه الحرب؛ فبينما تُحظر البلدوزرات والرافعات لإبقاء الجثامين تحت الأنقاض، وتُمنع الكرفانات والخيام المعزولة لإبقاء الناجين في مواجهة مباشرة مع الموت برداً، يُسمح في المقابل بتدفق السلع الاستهلاكية والهواتف الذكية في سياسة مدروسة بعناية فائقة.
إن السماح المتعمد بهذه السلع له وجهان خبيثان؛ محلياً، يهدف إلى تغذية الفوارق الطبقية وزرع بذور الاحتقان الداخلي في مجتمع ممزق يعاني ويلات الإبادة، وعالمياً، يصنع مادة دسمة لآلة التضليل الإعلامي الصهيوني ولوبيات التأييد، لتقديم صورة مغلوطة تتساءل بخبث: "كيف يعانون وهم يقتنون أحدث الهواتف؟!". إنه استبدالٌ متعمد للحقائق المأساوية بجدال سطحي، وإخفاءٌ لجريمة التجويع والقتل بالبرد خلف وهم الرفاه الزائف. ويتجلى هذا التواطؤ في أقسى صوره عبر خنق المسار الإنساني الأردني ورفض السماح بدخول قوافل المساعدات التي تُعد شريان حياة للغزيين في ذروة الشتاء، فهذا الإغلاق المتعمد للمعابر ليس "أثراً جانبياً" للحرب، بل هو سياسة ممنهجة للضغط والتجويع، أو "مفاوضات بالوكالة" تهدف لدفع المواطن الفلسطيني إلى حافة الهاوية، حيث يصبح التهجير أو الاستسلام في نظره الطريق الوحيد نحو الدفء والرغيف.
إن الغاية النهائية من هذه الممارسات هي تحويل قطاع غزة إلى نموذج مأساوي لـ "سجن ذكي" غير قابل للحياة؛ مساحة جغرافية تملؤها الأنقاض والسلع الاستهلاكية، بينما تفتقر تماماً لأدنى مقومات البناء والعيش الكريم، فلا إعمار حقيقي، ولا مستشفيات مجهزة، ولا سكن لائق،هذه السياسة تسعى لتحويل محتمع كامل من مجتمع يطالب بحقوقه السياسية والوطنية، إلى مجتمع يصرخ من أجل "خيمة" أو "علبة حليب"، وهو جوهر سياسة المحو التي تستبدل القضية بالحاجة، والكرامة بالبقاء المجرد. وتاريخياً، نجد أن هذا السلوك هو تطور لـ "سياسة السعرات الحرارية" التي طبقها الاحتلال سابقاً، لكنها اليوم أكثر دهاءً وقسوة؛ فبينما تتدفق الشاحنات المحملة بالإلكترونيات لتجميل المشهد، تُحجب الأدوية والخيام ووقود التدفئة، في وقت تشير فيه التقارير الطبية إلى ارتقاء عشرات الأطفال نتيجة البرودة الشديدة، وهي أرقام تفضح أن الأولوية لدى المحتل هي صناعة "الصورة" لا حماية "الحياة".
وفي نهاية المطاف، يتحول بقاء الفلسطيني في خيمته المبللة، ورفضه التخلي عن أرضه رغم كل محاولات التهجير بالتجويع والتجميد، إلى فعل مقاومة سياسي عظيم يمثل الفشل الذريع لمشروع الاحتلال وشركائه. لذا، فإن كشف هذه الخديعة الكبرى —خديعة مقايضة السلع الاستهلاكية بالثوابت الوطنية— هو جزء جوهري من المعركة. إن مواجهة الرواية المضللة وإظهار الحقيقة القائلة بأن شعب غزة يموت برداً وجوعاً بسبب "هندسة إجرامية" محسوبة، هو واجب إنساني ووطني؛ فالصمود هنا ليس مجرد انتظار، بل هو رفضٌ قاطع لأن تُقايَض إنسانية الإنسان وحقه الأصيل في الوجود، بأحدث إصدارات الهواتف الذكية.
هل ثمّة "نتنياهو جديد"؟
السيطرة السياسية على الإغاثة: كيف تُعيد إسرائيل والولايات المتحدة هندسة القانون الدولي على...
احتجاجات أوروبا: حين تنهار الأكاذيب
هبة الكرامة لم تنتهِ - مسار العقاب المفتوح في الداخل الفلسطيني
حين يُسحَب العمّال من المعادلة… كيف يختنق الاقتصاد؟
بين سور الصين العظيم وسور الرام اللعين سوران يفصل بينهما الزمن… ويجمعهما الألم
فلسطين: كيف يمكن كسر الدائرة الجهنمية؟






