يفوق الخيال...
لم يكن أحد، قبل عشرين عامًا، ليتخيّل أن يصل الإجرام المنظّم داخل الخطّ الأخضر إلى هذه الدرجة من الهيمنة الوقحة: انفلات كامل، وسلطة فعلية على الأرض، وشعب أعزل يُترك فريسة بلا حماية ولا مساءلة. نحن لا نتحدّث عن “جريمة عادية”، بل عن منظومة متكاملة تعمل بعِلم الدولة، وتحت عينها، وبرعايتها الصامتة ـ وأحيانًا العلنية. إجرام جرى إعداد الأرض له عبر النهب، والحرمان، والفصل العنصري، واحتجاز التطوّر الطبيعي.
خبراء كثيرون يؤكدون أن هذا النوع من الإجرام “فريد” في طبيعته: لم تعرفه حتى المجتمعات المنهارة التي اخترقها الإجرام المنظّم. عندنا، الجريمة ليست طارئة على النظام، بل جزء من هندسته. كيف لا، وهو نظام كولونيالي عنصري، من مرتكزاته الأيديولوجية الإحلالُ محلَّ السكان الأصليين، لا التعايش معهم.
كل يوم نسمع روايات عن الابتزاز، والتهديد، وطرائق القتل، والإذلال المنهجي للناس؛ قصصًا لا يصدّقها عقل. والمفارقة الفاضحة أن أهل القرى والمدن العربية يعرفون كل شيء: أسماء العصابات، قادتها، هياكلها، وأدواتها، بينما تتظاهر شرطة الأبرتهايد بالجهل.
لقد أغرقوا بلداتنا بمراكز الشرطة، لا لحمايتنا، بل لمراقبتنا، ولتفكيكنا سياسيًا، وقمع أي نفس جماعي يحاول أن يتحوّل إلى قوة، وإلى مجتمع متطوّر ينشد الحرية والحياة الكريمة. الجريمة تُترك لتتمدّد، ومن يتصدّى لها يُلاحق.
تطوّر أساليب الابتزاز، وجرأة العصابات، وثقتها بنفسها، لم تكن لتصل إلى هذا المستوى لولا الغطاء الذي يوفّره نظام الإبادة. نحن أمام إبادة اجتماعية بطيئة، محسوبة، تدفع الناس إلى اليأس، ثم إلى الرحيل، ثم إلى التلاشي. إنه الوجه الآخر لمشروع التطهير الصهيوني: لسان حال نظام الأبرتهايد يقول: إذا لم ننجح في طردكم بالقوة عام 1948، سنفعل ذلك الآن بالتجويف الداخلي، بالخوف، بالفوضى، وبانهيار المعنى.
لم يعد هذا توصيفًا بلاغيًا. فلسطينو الـ48 يعيشون اليوم معركة وجود حقيقية. لا أمان، لا طمأنينة، ولا سقف يحمي. الدولة التي يُفترض أن تحمي مواطنيها انسحبت عمليًا من واجبها، بل حوّلت غيابها إلى سياسة.
المرجعيات الوطنية القُطرية تراجعت، أُنهِكت، وفُرضت عليها المعادلات القسرية. الهيئات الاجتماعية والأهلية فقدت الكثير من قدرتها. حتى لجان الإصلاح، التي وُلدت من وجع الناس، جرى حظرها، واعتقال نشطائها. رسالة السلطة واضحة: إيّاكم أن تبنوا حصانة ذاتية.
ورغم كل ذلك، يبقى الرهان على ما تبقّى من إرادة جماعية. لجنة المتابعة اليوم أمام امتحان تاريخي، لا شكلي. مع انتخاب رئيس جديد جاء من مدرسة سياسية ترى في إعادة البناء مشروعًا مركزيًا، تصبح المسؤولية مضاعفة، والآمال أكبر. نحن لا نحتاج إلى بيانات، بل إلى حركة إنقاذ جماعية. الأولوية هي البناء، وتوفير كل ما يلزم لاعتماد هذا المسار.
على امتداد السنوات الماضية، لم يتوقّف الحراك والجهد: لجان، مبادرات، جمعيات، مؤتمرات. لم تكن عبثًا. لكنها اصطدمت بجدار مؤسسة الأبرتهايد من جهة، وبالإرهاق الداخلي من جهة أخرى. ومع ذلك، فإن هذه الجهود صنعت وعيًا، وشحنت أجيالًا للمرحلة المقبلة:
نحن لسنا جالية، ولسنا وافدين. نحن جزء من شعب نجا من التطهير، ويُراد له اليوم أن يُعاقَب لأنه بقي.
ماذا بعد تعثّر المحاولات الجماعية، الحزبية والتمثيلية؟
السؤال المرّ: إذا تعثّر الفعل الجماعي... هل نستسلم؟ هل نرفع الراية البيضاء؟ أم نبدأ من النقطة الأخيرة التي لم يستطيعوا مصادرتها: البيت؟
نعم، للأسرة دور. ليس بديلًا عن المشروع العام، بل جبهة موازية. التربية هنا ليست وعظًا، بل فعل مقاومة. أن تربي أبناءك على الكرامة، على الوعي، على الانتماء، لا على الفردانية والانعزال — فهذا عمل سياسي من الدرجة الأولى. التربية لا تحتاج معجزة؛ تحتاج إرادة ورغبة وإيمانًا، وتحتاج قرارًا. أن نجلس مع أبنائنا، وأن نكسر الصمت، وأن نعيد تعريف الحلال والحرام بمعايير أخلاقية ووطنية، لا استهلاكية وفردانية، بات واجبًا أخلاقيًا وضرورة حياتية، بل وجودية.
ما نعانيه ليس “انحرافًا أخلاقيًا” منفصلًا عن السياق، بل هو نتيجة مباشرة لبيئة سُمّمَت عن قصد. نعاني من مظاهر هدّامة وخطيرة تفتك بأجسادنا وقيمنا وسلوكنا، ومن هذه الانحرافات:
الاستهلاك المرضي: مظاهر ثراء كاذب، سيارات فارهة، هواتف فاحشة الثمن، أعراس استعراضية... غالبًا بقروض سوداء، ورِبا مقنّع، وديون تخنق البيوت وتدفع الشباب إلى أحضان العصابات.
حوادث الطرق: موت مجاني بسبب ثقافة تهوّر، لأنه لا توجد قيمة للحياة في وعي جرى تشويهه طويلًا.
العمل بلا حماية: موت وإعاقات دائمة... لأن العامل مجرّد رقم في نظام لا يرى فينا بشرًا.
الصحة المهملة: أجساد تُترك للبؤس، لأن الكرامة اليومية سُحقت.
نزاعات تافهة تتحوّل إلى حروب صغيرة: موقف سيارة، حدود بين الجيران أو الإخوة... تتحوّل إلى خصومة ممتدّة، بل أحيانًا إلى دماء، لأن الأعصاب مشحونة، والأفق مسدود.
مدرسة بلا روح: علامات بلا معنى. شهادات بلا قيم. جيل يُربّى على المنافسة الفردية لا على الانتماء.
الانسحاب من الشأن العام: كلّ ينغلق على نفسه، على أسرته، وعلى مصالحه. هذا ليس حيادًا — هذا تفكّك.
رغم كل شيء، ما زال في هذا المجتمع نبض: عائلات صلبة، مثقفون أحرار، نشطاء لا يملّون. هناك من يعمل بصمت في العمل الوطني، ومن يخدم الناس بلا كاميرات، ومن يبني ثقافة مقاومة أخلاقية وروحية.
لكن الحقيقة المُرّة أن حتى هؤلاء لم يعودوا في مأمن. فالاستهداف اليوم شامل، لا يميّز بين “المتورّط” و“المنضبط”. الجميع في مرمى النار.
واجبنا ليس البكاء على الخراب، بل إعلان حالة وعي، حالة رفض، حالة إعادة بناء من تحت... من البيوت... من الضمائر... من الإرادة. لا يستطيع أي فرد أن يتهرّب من المسؤولية: مسؤولية العمل، على الأقل، في دائرته القريبة، وهذا ممكن وممكن جدًا.
ولأن ما نتعرّض له بات بنيويًا، فإن المهمة كبيرة، والتحديات مهولة، وتحتاج إلى نَفَس طويل، وصبر كبير، حتى يتحقّق مفعولها التراكمي.
فخ القطيع والأرض المغلقة": من سرقة الأرض إلى هندسة المجاعة.. كيف تُدمَّر سبل العيش لتجريد...
بطانة الرئيس وإشكالية إصلاح النظام السياسي الفلسطيني
غزة في اليوم العالمي لحقوق الإنسان: عامان من القتل الممنهج والتدمير والتهجير
حلّ الدولتين وهم وحلّ الدولة الواحدة خيال... ماذا بعد؟
7 مليارات شيكل على المحك: رواتب الموظفين بين مطرقة المقاصة وسندان السندات
غزة قلب المشروع الوطني.. وحكومة التوافق رافعته لتجديد الشرعية
الكوتا فتحت الباب.. والسلطة الحقيقية خلف الأبواب











