إسرائيل واستراتيجية “الشريك المستحيل”
منذ أكثر من ثلاثة عقود دخلت منظمة التحرير الفلسطينية مسار التسوية على أمل الوصول إلى دولة مستقلة تعيش بسلام إلى جانب إسرائيل قدّمت المنظمة تنازلات عميقة لم تقدّمها أي حركة تحرر من قبل: اعترفت بإسرائيل، تخلّت عن الكفاح المسلّح، ألغت بنوداً مركزية من ميثاقها الوطني، وخاضت عملية تفاوض طويلة رغم اختلال موازين القوة.
لكن إسرائيل — بدلاً من أن تتعامل مع هذه التنازلات باعتبارها أساساً لشراكة سياسية — استغلتها لتفكيك مصادر القوة الفلسطينية وتحويل السلطة الوطنية إلى إدارة مدنية محاصَرة بينما توسّعت بالاستيطان وتلاشت المرحلة الانتقالية وحلّ مكانها واقع دائم يقوم على السيطرة الأحادية.
ومع مرور الزمن تبيّن أن المشكلة بالنسبة لإسرائيل لم تكن يوماً في اسم الفصيل الفلسطيني ولا في منهجه فهي ترفض حماس لأنها تقاوم وترفض منظمة التحرير لأنها تفاوض وجاءت تصريحات بنيامين نتنياهو لتكشف الحقيقة بوضوح: لا مكان في رؤيته لأي كيان فلسطيني يمتلك سلطة حقيقية مهما كان شكله أو قيادته.
بعد حرب غزة الأخيرة ظهر هذا النهج بأوضح صورة فـ“خطة ترامب الأخيرة” التي أطلقت إطار وقف إطلاق النار باتت المرجعية الأمريكية لمستقبل غزة و“اليوم التالي” لكن الخطة بكل مراحلها تتجاهل وجود قضية سياسية من الأساس: لا ذكر لحل الدولتين ولا لحدود الدولة الفلسطينية ولا للاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني الخطة تقدّم هندسة أمنية وإدارية لا أكثر.
ومع ذلك يُطلب من الفلسطينيين “نزع السلاح” أو “إخراج حماس من المشهد” بينما لا يعترف أحد بحقهم في دولة فكيف يُطلب التخلي عن أدوات القوة بينما يبقى الحق نفسه غير معترف به؟
وفي الوقت الذي انشغل فيه العالم بدمار غزة وتهجير سكانها كانت الضفة الغربية تشهد تسارعاً غير مسبوق في الاستيطان واعتداءات ممنهجة من قبل مجموعات المستوطنين ومصادرة أراضٍ بوتيرة لا يمكن فصلها عن مشروع سياسي أعمق: تفريغ الأرض من أصحابها تدريجياً وإغلاق الباب أمام الدولة الفلسطينية نهائياً.
لكن ما يجب أن تفهمه إسرائيل ومعها الولايات المتحدة هو أن السياسات القائمة — من نزع الاعتراف الفلسطيني، ومحاصرة السلطة، وترك غزة مدمّرة بلا أفق — لا تصنع استقراراً بل تحوّل الصراع إلى دائرة أوسع من الجغرافيا الفلسطينية وتفتح احتمالات لا يمكن لأي قوة أن تضبطها.
فالهجمات الكبرى في التاريخ لا تنطلق دائماً من مصدر واحد ولا تتقيّد بجغرافيا بعينها وعندما تكون الأرض المحتلة هي فلسطين وعندما تكون القدس ومسجدها الأقصى — أولى القبلتين وثالث الحرمين — جزءاً من عقيدة أكثر من مليار مسلم فإن أي تفجّر للصراع لن يبقى محصوراً داخل حدود غزة أو الضفة بل سيظل احتمال امتداده قائماً في أي لحظة من فضاء عربي وإسلامي يمتد من المحيط إلى الخليج و من داخل مسلمي و احرار العالم في اوروبا و حتى أمريكا و الصين .
وإن كان السابع من أكتوبر قد خرج من غزة فليس هناك ما يضمن — في حال استمر إغلاق الأفق السياسي وازدراء الحقوق — أن لا تندلع توترات أو عمليات من مناطق أخرى في الإقليم سواء من الحدود الشمالية أو الشرقية لفلسطين أو حتى من مساحات أوسع من العالم الإسلامي التي ترى فلسطين جزءاً أصيلاً من هويتها الدينية والسياسية.
هذه ليست توقعات أمنية بل قراءة واقعية لما يعنيه تراكم الإحباط وغياب المسار الدبلوماسي وتجاهل مشاعر مليار مسلم ينظرون إلى القدس والمسجد الأقصى باعتبارهما جزءاً من عقيدتهم لا “قضية خارجية”.
إن استهتار إسرائيل بهذه الحقيقة وتجاهلها لعمق الارتباط الروحي والتاريخي للعرب والمسلمين بفلسطين يضعها أمام تهديد لا يرتبط بفعل مباشر بل بـ نتائج السياسات التي تصنعها هي: دولة تتصرف كأنها يمكن أن تعيش فوق أرض مقدسة لمليار إنسان دون أن تحترمهم بينما تحاول في الوقت نفسه محو شعب يعيش على تلك الأرض وهذه وصفة لصراع لا ينتهي وليس لأمن دائم.
ومن منظور استراتيجي بحت يجب أن يُقال بوضوح لصنّاع القرار في تل أبيب وواشنطن:
الدولة التي تنكر وجود الشعب القابع تحت سيطرتها إنما تنكر المبرر الأخلاقي والسياسي لوجودها هي.
ومحاولة محو الفلسطينيين — سياسياً أو ديموغرافياً — لا تؤدي إلى أمن إسرائيل بل إلى عزلتها وتهديد مكانتها وتقويض شرعيتها أمام العالم.
هذه ليست دعوة ولا امنيات عاطفية بل حقيقة تتكرر في التاريخ:
لا يمكن لأي كيان أن يستقر بينما يتصرف كأن إلغاء الآخر هو ضمان بقائه.
وعليه فإن الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة ليس منحة للفلسطينيين بل شرط لاستمرار بقاء إسرائيل نفسها.
وإن كانت الولايات المتحدة حقاً معنية بأمن إسرائيل فالمهمة ليست حماية إسرائيل من الفلسطينيين بل حماية إسرائيل من نفسها و من متطرفيها و من وهم أن بقاءها يمكن أن يُبنى على إنكار حقهم او إبادتهم .
فالإقرار بالحق هو الطريق إلى الأمن وإنكاره هو الطريق إلى تهديد وجودي متصاعد سياسياً وأخلاقياً واستراتيجياً.
فإن لم تدرك إسرائيل اليوم أن إنهاء الاحتلال ومنح الفلسطينيين دولتهم هو مصلحتها الحيوية قبل أن يكون حقاً فلسطينياً فإن السؤال في المستقبل لن يكون فقط: “إلى أين يذهب الفلسطينيون؟”
بل: “أين ستذهب إسرائيل في عالم لم يعد يقبل بقاء دولة تتصرف خارج القانون والحق والوجدان الإنساني؟” .










