لجنة المتابعة: الأخلاق هي الحلّ
تتصدّر الانتخابات القريبة لرئاسة "لجنة المتابعة" العناوينَ والنقاشات في الإعلام والميديا الاجتماعيّة، وهذا أمر حسن في جوهره. فالمجتمع العربي في الداخل ما زال يلتقط أنفاسه من ويلات الحرب في غزة، وما تبقى من أنفاسه مكتومة ومقطوعة تحت وطأة الترهيب السياسيّ وسياسة كمّ الأفواه المسعورة التي تشنّها أذرع الدولة برفقة "ميليشيات" يمينيّة من متطوّعين إسرائيليّين وضعوا نصب أعينهم "تعليم العرب درسًا".
لذلك، فإنّ النقاش السياسيّ الشرعيّ الدائر حول انتخاب رئيس جديد للجنة "المتابعة" هو مناسبة لإعادة تسليط الضوء على وضعنا السّياسيّ والمجتمعيّ في الداخل، الذي انحرف في السّنوات الأخيرة وتركّز في تأزّم مشهد الجريمة المنظّمة وعداء الدولة المُتصاعد. وبرأيي، من الجدير في هذا السّياق التعامل مع هذه المسألة في ضوء الملاحظات التالية:
1. رغم كلّ الانتقادات الصحيحة والشرعيّة التي يمكن توجيهها ضدّ "المتابعة" وحالتها المُترهّلة، وقد فعلنا ذلك مرارًا، إلّا أنّ على المرء أن يكون مُنصفًا وعادلًا: لجنة "المتابعة" هي لجنة تمثيليّة شبه رمزيّة، وبالتالي فإنّ تأثيرها على مناحي حياتنا محدود من الناحية التنفيذيّة. لذلك على دورها الكبير والرّياديّ أن ينحصر في البُعديْن الأخلاقيّ والوطنيّ، إلى جانب استشراف المُستقبل والتجهّز له كما يجدر بأيّ قيادة جماعيّة. هذا يعني أنّ أيّ توقّعات من هذه اللجنة بأن تقلب الموازين في الكنيست والوزارات، أو أن تقضي على الإجرام المُنظّم، هي آمال مُجنّحة بعيدة عن أرض الواقع. ما يجب فعله هو إعادة صياغة المبادئ الأساسيّة لوجود "المتابعة" كلجنة تمثيليّة عُليا، وأهمّ هذه المبادئ: إعادة الاعتبار للمواقف والمسلكيّات الوطنيّة الآنيّة والمستقبليّة، والتشديد بكلّ الوسائل وبالتعاون مع كلّ الجهات على البُعد الأخلاقيّ للمُجتمع.
2. من المؤسف والمؤلم القول إنّ السّقف الأخلاقي لنا نحن الفلسطينيّين في الداخل ينخفض باطراد ومثابرة منذ أكثر من عقديْن. وأقصد بذلك: النزعات الفردانيّة - الزبائنيّة التي تفشّت في العمل البرلمانيّ والبلديّات ومؤسّسات المجتمع المدنيّ ومؤسّسات الدولة المُشغِّلة. ومعها حالة الانغماس الاستهلاكيّ التي تُغذّيها "ستوريهات" و"ريلات" النيو ميديا، لدرجة أنّ شرائح واسعة منّا ترى أنّ مُبرّر وجودها وأهميّتها في العالم الافتراضيّ أهمّ من الواقع نفسه. وعندما تنعدم الصّلة بين الواقع وبين البُعد الافتراضيّ سيغيب بالتأكيد البُعد الأخلاقي عن مسلكياتنا، بما يحمله ذلك من مسؤوليّة فرديّة والتزام جماعيّ. وهذا ليس ذنب "المتابعة"، لكنّ ذنبها في العقديْن الأخيريْن أنّها لم تُحرّك أيّ ساكن في هذا الشأن، رغم أنّنا كلّنا نرى وبجلاء الآثار الهدّامة التي يجلبها هذا الوضع على المبنى المُجتمعيّ والأُسريّ والمؤسّساتيّ.
3. الناس مُستنزَفون ومُنهَكون. في الصباح خبر عن جريمة قتل، وفي المساء خبر عن اعتقال وتحقيق مع ناشط سياسيّ. المشاهد المُروّعة من غزّة زادت من منسوب الإحباط والشعور باللا جدوى، والناس بطبيعتها كمجموع كبير يشكّلون كائنًا عصبيًّا ومِزاجيًّا وغير عقلانيّ. ما يُمكن أن يدفع الناس باتّجاه الأمل أو الجدوى هو القيادة. الخطاب الإنسانيّ والثقافيّ والتشجيعيّ. ليس من المُفترض بلجنة "المتابعة" أن تُحصّل ميزانيّات لتعبيد الشوارع، لكنّ من واجبها أن تُعيد الثقة بالشّارع، عبر طرح برامج شعبيّة واسعة تستبدل بيانات الشجب والاستنكار التي تُذكّر الناس بالأنظمة العربيّة البالية.
4. لو وجّهت "المتابعة" دفّتها نحو هذا التوجّه لهانت سائر المُعوّقات: يمكن ساعتها استبدال منظومة الترشّح والانتخاب، ويمكن ساعتها تجنيد كوادر شبابيّة يهمّها البلد وأهله، ويمكن ساعتها كسر الصورة النمطيّة التي تصوّر "المتابعة" كلجنة مُسنّة وضعيفة تحوّلت منذ زمن إلى منصّة للمناكفات والاحترابات، ولسان حال الناس يقول: جعجعة بلا طحن. أنا لا أدّعي أنّني أملك الحلول السّحريّة، وهناك المئات والآلاف من أهلنا يتقنون قيادة الدفّة التنظيميّة والتنظيريّة أكثر منّي. لكنّني أدّعي وبإصرار أنّ مشكلة "المتابعة" ليست تنظيميّة أو سياسيّة أو حزبيّة. المشكلة في فهم "المتابعة" لدورها التاريخيّ، ولا شكّ في أنّ استيعاب ذلك وتغيير البوصلة بشكل جذريّ أصعب بكثير من أي إصلاح تقنيّ أو تغيير بند دستوري - نظاميّ. ومع ذلك يظلّ الحلّ الأصعب هو الحل الأفضل والأجدر.
ذكرى مقتل رابين: مرحلة "لا سلام أبدًا"
التعميم الإسرائيلي والسياسات الأمريكية ضد الصين: صراع التكنولوجيا العالمي والعالم العربي ب...
20 ألف شيكل... سقف الكاش أم اختبار الثقة؟
تحديات الأبعاد الإنسانية والآثار النفسية للإبادة
تفكّك بنية المشروع الإسرائيلي (المسألة الديموغرافية)
حول حرمان العرب من حقّ التّصويت للكنيست
السلام الحقيقي لا يُولد من الانحياز… بل من عدالة تُفرَض بالقانون و القوة










